نبيه العاكوم

التفكير في التكفير يأخذ القارئ إلى المجال والبعد الديني، وكل طائفة ترى في نفسها سفينة النجاة، وهذه سُنة الكون منذ أن خُلِق آدم؛ ولم تقتصر على الطوائف، فتعدتها إلى أن وصل التكفير بين الفِرَق ضمن الطائفة الواحدة. قال أحدهم: حتى تقضي على فصيل ناشىء يشكل خطورة على وجودك، انعته ب"التكفيري" حتى يذوب كالملح في الماء بنبذه من المجتمع!

وهذا ما تنتهجه كثير من الأحزاب اليوم، فتسرح في إتهام الآخرين بالتكفيريين دون أدنى إحترام للأمانة العلمية والنقل الصحيح وعرض الأدلة. كما سبقنا بالقول أنه ومنذ نشأة الأديان، وجميع الطوائف ترى في نفسها الصراط المستقيم، الذي إن فقد أحدهم الهداية دونه، أصبح من الضالين، البعيدين عن الحق، فيتم تكفيره بناء على قاعدة كل عقيدة أو طائفة؛ وهذا الحال ينطبق أيضا على الفِرَق ضمن الطائفة الواحدة، دون الدخول في التفاصيل. شاع في الأمصار نعت الآخرين بالتكفيريين، وأصبحت وسيلة خطيرة لشن هجوم إعلامي إستباقي على فئات متدينة يُخاف من إنتشارها، فيُبث فيها سَم العصر "التكفير" لخطورته وتحذير الخوض فيه؛ ولعظم شأن الغلو فيه جاءت النصوص في الدين الإسلامي محذرة من المجازفة فيه، وأتى التأكيد على النهي عن الخوض فيه إلا لمن تمكن في العلم، ولأسباب محددة، ولا يسوغ أن يخوض فيه متوسطو العلم ومبتدؤوه الذين لم يفرغوا من تعلم وتحصيل الواجب عليهم، فكيف بغير المتعلم البعيد عن علم أصول الدين وضوابطه؟

هذا الأسلوب بدأ عندما شنت بعض الفصائل الإسلامية "الجهادية" (مصطلح بالمعنى السياسي لا الفقهي) حرباً ضد العدو القريب، ويهمزون إلى الحكومات الفاسدة الديكتاتورية، وغلت بعض الفصائل وتوسعت في التكفير حتى وصلت إلى المؤسسات العسكرية بكامل جندها وقادتها، واصفة إياها بحُماة الطاغوت؛ فأطلِق عليهم وصف "تكفيري"؛

وما لبث الخصوم السياسيين يستخدمون الوصف لحربهم الضروس ضد كل من يرفع راية "الإسلام السياسي"، بغية الإجهاز عليه لنبذه وطرده من المجتمع. جال هذا الوصف وطاف الأمصار وحط رحاله في أرض الشام، فتلفقه من أراد محاربة ثوار سوريا حتى يتسنى له كسب عطف الناس والقضاء على الثورة؛ والغريب في الأمر أن من استخدمه هو "التكفيري" الأول في المنطقة، الحزب الذي لا يقبل بالرأي الآخر، المبعوث من النظام الملالي إلى ضفاف البحر المتوسط، بساحله الشرقي، ولم يكتفِ أن اتهم الثوار بالتكفيريين، بل إنه ابتدع وتفنّن في تكفير الآخرين دينياً وسياسياً، حتى وصل بزرع الحقد في نفوس من آمنوا بالشراكة والعيش المشترك، فأصبحوا أعداء ضمن الوطن، ويلزمنا إنتظار أجيال عدة لو أردنا انتزاع الحقد فيما بينهم! نعم، أصبح التكفير عندهم بشِقَين، ويُمكن إعتبارهما متصلين، فتكفيرهم الآخرين دينياً، وهذا منصوص في كتبهم وأسفارهم، جعلهم يتمادون حتى وصلوا للتكفير السياسي، مجرد عدم إذعان البعض لمشروعهم الديني في المنطقة، وما يترتب عليه من قتل وظلم طال أشخاص وشعوب ومجتمعات برمتها .

لا أريد إدراج الأدلة المستفيضة والكثيرة والتي تكاد تبهر من يريد الإبحار في كتبهم ومراجعهم المعاصرة والتاريخية؛ ولكن يُمكن ذكر رواية واحدة فقط نراها في عملياتهم وأسلوب إغتيالهم لكل من يرفض أجندتهم؛ فقد روى القمي الملقب بالصدوق (من أهم علماء الإثنى عشرية) في كتابه "علل الشرايع": "قلت لأبي عبد الله : ما تقول في قتل الناصب؟ قال: حلال الدم ولكني أتقى عليك فإن قدرت أن تقلب عليه حائطاً أو تغرقه في ماء لكيلا يشهد به عليك فافعل، قلت: فما ترى في ماله؟ قال: تَوَّه ما قدرت عليه"؛ والجدير بالذكر أن الناصبي عند الإثنى عشرية هو كل من نصب العداء لأهل بيت رسول الله ورضي بخلافة الخلفاء الثلاثة قبل الصحابي الجليل علي بن أبي طالب رضي الله عنهم جميعاً. يبقى التأكيد على مسألة مهمة جداً، أنه لا يُمكن إغفال فكرة تكفير الطوائف لبعضها، ولكن الحذر من الغلو بطريقة جاهلة فيترتب عليه هدر دم وسبي عرض وسلب مال؛ وهذا لم نعهده في مجتمعاتنا الواعية خاصة في أرض الشام.

إرتفعت وتيرة التكفير السياسي والتحريض على القتل والكراهية بشكل لم تعهده مجتمعاتنا اللبنانية بالتحديد، خاصة بعد كل تقدم يشنه ثوار سوريا ضد طاغية الشام؛ والتكفير السياسي يختلف عن الديني لأن المستهدف يمكن أن يطال إبن الطائفة الرافض للظلم والجور، فقد قُتِل هاشم سلمان إبن الطائفة الشيعية الرافض لولاية الفقيه وأجندتها؛ وهُدّد الأسعد والصقر والسيد الأمين وغيرهم وهم عقلاء الطائفة التي نادت بالتحرر من الوصاية السورية الإيرانية! نعم، تمادوا حتى وصلوا إلى التحريض على القتل علناً، فتحررت أقلام صحافييهم من "التقية"، فكتب أحد أبواقهم في صحيفته "الأخبار" رسالة متوترة دعت صراحة الى قتل كل من يقف ضد النظام السوري ويؤيد الضربة العسكرية عليه، أو يصمت عنها!

وآخر يؤيد كلام أحد المعجبين بقوله "لقد حان الوقت الذي تنقسم الناس فيه بالفطرة، إما عميل أو وطني؛ كل وغد يهلل للعدوان الأميركي على سوريا هو خائن يستاهل التعاطي معه في محكمة تفتيش ومحاسبته في محكمة ميدانية"! نعم، تمادوا حتى أخذوا الدروس من مدينة الظلم، وطرقوا باب بني صهيون، فأخذوا منهم طقوسهم، عندما كتب أطفالهم في الصواريخ التي كانت تستهدف أطفال لبنان "من أطفال إسرائيل هدية لكم"؛ فجيّشوا الأطفال بعمر الورود، وحملوهم الشعارات التي تنادي "فرع المعلومات، شاهد ما يعرفش حاجة" و "بقاعنا والجنوب أسست المقاومة وشمالكم تأسس الإرهاب"! هذه مدرسة "التكفير"؛ وإن لم تستحِ فافعل ما شئت...