شيء مدهش ومثير للسخرية في آن ما طالعنا به اتفاق جنيف ذو النقاط الست والذي تم التوصل اليه بعد ثلاثة ايام من المحادثات المكثفة بين وزير الخارجية الاميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف ، هذا الاتفاق الذي ومهما كانت نظرة التقييم له من انه شكل نقلة حقيقية في العمل الديبلوماسي المؤدي الى تفادي العمل العسكري ، الا انه انقذ المجرم من العقاب ، وجعله يفلت من فعلته ، هذه الفعلة التي أدت بما يقارب ال ١٤٠٠ شخص الى الموت اختناقا ، بأبشع الوسائل فتكا  ( غاز السارين )  ، مع اننا لسنا ندري هنا ما الفارق في ان يذهب الانسان اختناقا بغاز السارين او ان يتشلع جسده بفعل براميل المتفجرات التي كانت ولا تزال تلقى ، بكل دم بارد على القرى والمدن السورية . 
في كلا الحالتين ، الموت واحد .. والسفك واحد .. والمجرم في نفس الوقت .. واحد ، وهو ما لم يتكلف القوامون على اتفاق جنيف عناء تسميته او الاشارة اليه ولو مواربة .. 
والمضحك المبكي اكثر واكثر ، ان ينص اتفاق جنيف على هذا الاستعجال وهذا الإلحاح للقضاء على الاسلحة الكيميائية السورية في اسرع وقت  : 
_ إمهال دمشق مدة اسبوع لتقديم قائمة بهذه الاسلحة ، اسماء وأنواعا وكميات ومواقع وأشكال تخزين ، فضلا عن عمليات الانتاج والبحث والتطوير .
_ انتهاء عمليات التفتيش الدولية الأولية ، وتدمير معدات الانتاج والتعبئة في تشرين الثاني . 
_ التخلص الكامل من معدات وتجهيزات الاسلحة الكيميائية في النصف الاول من العام ٢٠١٤ . 
_ فرض تدابير بموجب الفصل السابع من ميثاق الامم المتحدة في حال أخلت سوريا في تنفيذ هذه البنود . 
وكأن واشنطن وموسكو قد استفاقا فجأة ، بعد ضربة الكيماوي في ريف دمشق ، على هول وفظاعة ما يجري في سوريا ، بعد عامين ونصف العام من التغاضي الفاضح عن استباحة آلة القتل والتدمير ، واستحقا ان الكيماوي قد يطال دول الجوار وتحديدا اسرائيل ، وهو ما لفت اليه بوضوح وزير الخارجية الاميركي جون كيري . 
على اي حال ، اذا كان اتفاق جنيف قد فرض على النظام السوري تقديم تنازلات ، قبل بها الاخير كي يبعد الضربة عنه ، فمن السذاجة الركون الى ان الامور شارفت على الانتهاء هنا .. فالشيطان ، كما يقال يكمن في التفاصيل ، والعبرة في الالتزام والتطبيق ، والذاكرة ، لم تنسنا كيف اغرق النظام السوري بعثات المراقبة ، عربية كانت ام دولية ، في التفاصيل والشروط ودهاليز المناورات والخداع ، مرغما إياها على الخروج من سوريا بخفي حنين . وفي هذا السياق ، يجدر بنا التوقف عند المعلومات التي ذكرتها صحيفة  ًوول ستريت جورنال ً قبل يومين ، من ان النظام السوري شرع ومنذ ايام عديدة ، في إخفاء ترسانته من الاسلحة الكيماوية في نحو خمسين موقعا مختلفا ، بهدف تعقيد مهمة المفتشين الدوليين . 
وتقول واشنطن انها تقدر مخزون الاسلحة الكيماوية السورية بنحو الف طن ، وعليه يفترض بالإدارة الاميركية ان تتفضل وتشرح لنا ، بانه كيف يمكن لمهلة الاسبوع التي حددها اتفاق جنيف ان تحصي اسماء وانواع و كميات و مواقع واشكال تخزين الف طن من المخزون الكيميائي ؟؟ 
وفي المحصلة .. لعله من سخرية الأقدار ان يتحول الرئيس الروسي  فلادمير بوتين بين ليلة وضحاها .. صانع سلام في  المنطقة و داعية لوقف الحروب ..  بعدما حصدت  أسلحته اكثر من مئة وعشرة آلاف قتيل وفق الأرقام المعلنة،  فيما كرس الرئيس الأمركي نفسه امام الرأي العام العالمي، رجل الأداء الضعيف، المتذبذب والمرتبك، حتى اصبح السؤال على لسان كثر: اهذه هي اميركا التي نعرفها ؟؟  فالاقتراح الكيميائي الذي خطف الأنظار طيلة الاسبوع المنصرم ، عوم  قيصر الكرملين الذي كان ينظر اليه على انه دكتاتور لا يحترم حقوق الانسان ،  كما اعتبر "ضربة معلم" من الوزير المحنك سيرغي لافروف ، وهو ما جعل الكثير من المراقبين الديبلوماسيين يقولون : إليكم.. روسيا الجديدة !! 
وسواء كان بوتين من اكبر المراوغين ام لا... فمما لا شك فيه انه كسب هذه الجولة امام باراك اوباما، وما عاد ذلك الفتى الذي يجلس ويشعر بالملل ،  في القسم الخلفي من الصف ، كما نعته اوباما ذات مرة .