يسهل على عديمي الخبرة في حزب الله كيل الاتهام للسلفيين والتكفيريين بتدبير سيارتي الضاحية الجنوبية المفخختين ، كما يسهل على جهلة السلفيين اتهام حزب الله بعبوتي طرابلس . لكن هذا الكلام المجاني " الخفيف" ، قد يدل على سذاجة من يطلق الاتهام كما قد يكون دليلا على كيده أو على أن وعيه طافح بالتعصب . وفي الحالتين ، يستند العقل الاتهامي على جهل بقوانين السياسة  وقوانين التاريخ ، وعلى " ممانعة " عن الاستفادة من تجربة الحرب الأهلية اللبنانية .

هذا الكلام يعني حزب الله قبل سواه لأنه الأكثر تماسكا بين القوى التي تشبهه ، ولأن صاروخ مشروعه الوهمي ( ولاية الفقيه) مدفوع ( بلغة الصواريخ ) بحشوة إضافية افتراضية من المال النظيف و المطامع والطموحات الإيرانية ، ولأنه لم يقتنع بعد بأنه لا يختلف عن  سائر الأحزاب الأصولية الأخرى ، الدينية والقومية واليسارية ، اختلافا نوعيا ، بل يتمايز عنها تمايزا لا يغير من كونه وإياها من جينة واحدة هي ، بالتحديد، الجينة التكفيرية.

كافر في نظر أي جهة حزبية هو من لا يؤمن بما تؤمن ، هو الآخر المختلف ، الذي لا يعترف بدين سواه ولا بأفكار سواه ولا حتى بمخاوفه ، أو  بحقه في "اختيار" أوهامه . وهو ، من باب أولى ، بلغة السياسة ، من يكون مشروعه ، في نظره ، غير قابل لاحتمال الخطأ ، فيكون محكوما بالمضي حتى الحدود القصوى التي لا تقبل التسويات ولا تحسن تدوير الزوايا ولا تعير اهتماما بالرأي الآخر . تلك هي صفات المستبد التي جسدتها الأنظمة والأحزاب الأصولية في التاريخ القديم والحديث ، على اختلاف انتماءاتها السياسية ومنابتها الإيديولوجية. ولا فرق في ذلك بين صدام حسين وستالين والملا عمر . كل من هؤلاء ألغى الآخر المختلف ، ولم يتوقف الأمر عند حدود القضاء على مشروع معاد أو قائد معاد أو خصم أو منافس ، بل بلغ الأمر بالأصولية الاسلامية ، في أفغانستان مثلا، وهو ما بزت به كل أصولية سواها،  حد الجهر بالقضاء حتى على الانجازات البشرية في العلم والحضارة فحطموا تماثيل بوذا وأغلقوا مدارس النساء وعطلوا وسائل الإعلام المرئي .

حزب الله و" التكفيريون " تبادلوا الاتهامات في زرع عبوات الضاحية وطرابلس ، لكنهما متفقان على عدو نلوذ إلى اتهامه هو، حين يعيينا البحث عن الأدلة أو نعدم القرائن التي تساعدنا على إدانة بعضنا بعضا . إنه أسرائيل ، التي استبعدها كل منهما ، هذه المرة ، والسبب بسيط : لقد مضى كل منهما نحو أقاصي مشروعه وباتت العودة إلى جادة الصواب تحتاج إلى مستوى عال من الحكمة ، وحد أدنى من المعرفة بالواقع السياسي اللبناني وقوانين إدارة الصراع فيه.

أما الحكمة فهي هبة ربانية ندعو الله أن يمنحهم إياها ، بينما لا نملك نحن إلا تذكيرهما ببعض دروس من الحرب اللبنانية .

1-    الحرب الأهلية ، كل حرب أهلية ، في لبنان وفي العالم ، في الحاضر والتاريخ ، لا تنتهي بغالب ومغلوب، بل هي لا تنتهي إلا بخسارة الجميع وبتدخل خارجي يضبط القوى التي تكون قد أنهكت نفسها بالحروب الأهلية ، ويفرض عليها الحل الذي يريده هو والذي قد لا يأخذ بعين الاعتبار إلا مصالح القوى المتدخلة ، على غرار ما حصل بالضبط غداة انتهاء النسخة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية ، حين أوكل الخارج إلى النظام السوري إدارة الوضع اللبناني ، فكان أول ما فعله هو العمل على إلغاء الدولة وتعميم النموذج الاستبدادي ( إلغاء الآخر )  المستلهم من تجربة الأصولية اليسارية ( ستالين ) والقومية ( هتلر) والدينية ( إيران وأفغانستان والسودان  ومحاكم التفتيش القروسطية ، الخ ) .

2-    لا فضل لتكفيري على تكفيري آخر ، حتى بالتقوى ، لأن الكل سواسية في تخريب الدولة وتفتيت وحدة الشعب والوطن ، بالتحريض المذهبي أو الطائفي أو المناطقي ، وفي الإصرار على البحث عن حلول للأزمات السياسية من الباب الأمني الذي يختار لغته ومصطلحاته من التهديد والوعيد وتكبير الكلام  ، ويختار فصحاءه ( البارعين في علوم التحريض ) من الجهلة في علم السياسة والمسيئين  لآداب الحوار .

3-    ثبتت بما لا يدع مجالا للشك استحالة  استفراد أي طائفة بحكم نفسها أو تحكمها بسواها ، وبالتالي استحالة كل المشاريع الفئوية والمناطقية والمذهبية .

4-    وثبت  "بالوجه الشرعي " أن الانحياز إلى مشاريع ما فوق وطنية ( قومي وأممي وديني ) كالانحياز إلى مشاريع ما دون وطنية ( مذهبية وطائفية ) ، كلاهما انحياز ضد الوطن والدولة لصالح قوى خارجية أو لصالح الاستبداد.

5-    لا حل للأزمة اللبنانية وأزمات بلدان المنطقة كلها إلا بقيام دولة القانون والمؤسسات بديلا عن الدولة القائمة على المحاصصة ، كما في لبنان أو العراق ، أو على حكم الحزب الواحد والحاكم الفرد ، أو على الحكم الوراثي . كلها أنظمة استبداد ولا حل إلا بالتعدد والديمقراطية.