تتوجه الاحكام الشرعية الى الانسان المكلَّف، والانسان امام التكليف هو مجموع الجسد وقواه، وعلى هذا فان الحكم بوجوب صوم شهر رمضان يقتضي التزام كامل الجسد بما يتعلَّق بكل عضو منه ليتحقّق الصوم. والمعروف أنَّ الصوم المفروض يتعلق بأمور مباحة في الأصل فيمتنع الانسان عنها، فانَّ أعضاء الجسد التي تتحرك بارادة الانسان هي اداة تحقق الصوم او الافطار، واذا نظرنا الى المفطرات الممنوع منها الانسان حال صومه مقارنة باعضاء الجسد وجدنا انّ الاكل والشرب مثلاً يتعلقان باليدين والفم والاسنان واللسان والحلق والبلعوم الى اخر المطاف ان لم نذكر الرجلين كاداة حركة للوصول والاتيان بالطعام والشراب، وهكذا يرتبط كل مفطر بعدد من اعضاء الجسد. واذا كان الصوم هو الامتناع امتثالاً وقربة الى الله فهل يمكن الكلام عن صوم لجوارح الانسان خارج المفطرات المعروفة تبعاً لارتباط وتعلق ارادة الانسان بجسده؟
وهل يمكن الكلام عن الجوارح مستقلة عن الانسان؟، أو عن صوم من نوع اخر نحترز به عن النار؟
على صعيد هذه الدنيا، وفي ما يبدو لنا وجوداً ظاهراً يصعب الكلام عن استقلال للجسد عن نفس الانسان، لكن لو دققنا قليلاً لوجدنا ان ذلك ممكن ودليله ادراك المعتاد او المدمن على أمر من الأمور وصول جسده الى حالة الاحتياج المادي الى المادة المدمن عليها، فلو أراد الامتناع عنها فجأة تداعت اعضاؤه الجسدية في طلبها بحيث تحرك ارادته في طلب الحصول عليها لاشباع حاجته الجسدية لها.
نعم قد يقال أنَّ هذا نوع اكراه مادي ونفس الانسان هي المسؤولة نهاية الأمر عن تنظيم الحركة في الطلب لما يشبع الرغبة، ها هنا تظهر الصعوبة في اثبات استقلالية اعضاء الجسد في ارادة شيء أو فعل أو احساس، لكنَّ الاخرة تثبت لنا أنَّ هذه الأعضاء كانت تملك استقلالية بنحو ما. قد لا نثبت لاعضائنا استقلالية كاملة في هذه الدنيا بمعنى كونها عاقلة مقابل نفس الانسان العاقلة المسؤولة، لكنَّها عاقلة بمعنى اخر هو قابلية الحفظ والاداء للشهادة في الاخرة كما جاء في القران الكريم من سورة فصلت:
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ - فصلت - الآية - 19 حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - فصلت - الآية - 20 وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ - فصلت - الآية - 21 وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ - فصلت - الآية - 22 
أو من سورة يس:
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ - يس - الآية - 65 
أو من سورة النور:
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - النور - الآية - 24 
ومعنى قوله تعالى في سورة فصلت " وما كنتم تستترون ان يشهد عليكم.." الاية 22 يظهر في كلام الامام زين العابدين عليه السلام في رسالة الحقوق حيث يقول:
" وحق الصوم أن تعلم أنَّه حجاب ضربه الله عز وجل على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك وفرجك ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله عليك .
وبملاحظة انَّ ما يعمل في الخفاء لا شهود عليه فلا يُعرف الاَّ بالاقرار يظهر ايضاً معنى من معاني الحديث القدسي : " كل عمل ابن ادم هو له غير الصيام هو لي وأنا أجزي به " . ها هنا شهود تخرق الستر وتبدي ما خفي من عمل وتؤدي بصاحبه الى الجزاء الذي يستحقه.
انَّ الحجاب الذي ضربه الله عز وجل على اللسان والسمع والبصر والبطن والفرج "... ليسترك به من النار" هو نتيجة امتناع هذه الاعضاء كلها عن فعل ستكون عاقبة الشهادة به النار وحتى نصل بأنفسنا واعضائنا الى الاحتجاب عن النار كان افتراض الصوم عليها جميعاً. يقول امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام:
" صوم الجسد الامساك عن الاغذية بارادة واختيار خوفاً من العقاب ورغبة في الثواب والاجر، صوم النفس امساك الحواس الخمس عن سائر الماثم وخلو القلب من جميع اسباب الشر".
وعلى هذا الاساس، فاذا كان صوم شهر رمضان عن المباحات في غيره، يفيد فيما يفيد به اعتياد النفس وتدريبها على الامتناع عن المحرمات فيه وفي غيره أن تطلبها، وهكذا تدريب واعتياد يشملان اعضاء الجسد فتتخلص ايضا من الاحتياج المكره للنفس على ارادة المحرم في شهر رمضان وفي غيره من الشهور والايام، فكان على الانسان ان يلتفت الى رعاية هذه الاعضاء تأهيلاً لها لتكون عوناً لنفسه لا عدوا لها، ولها بعد ذلك حقوق كما يعلمنا الامام زين العابدين عليه السلام:
".. وحق اللسان إكرامه عن الخنى، وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة لها والبر بالناس وحسن القول فيهم.
وحق السمع: تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحل سماعه.
وحق البصر: أن تغضه عما لا يحل لك وتعتبر بالنظر به.
وحق يدك: أن لا تبسطها الى ما لا يحل لك.
وحق رجليك: أن لا تمشي بها الى ما لا يحل لك، فبهما تقف على الصراط فانظر ان لا تزل بك فتردى في النار.
وحق بطنك: أن لا تجعله وعاءً للحرام ولا تزيد على الشبع.
وحق فرجك: أن تحصنه عن الزنا وتحفظه من أن ينظر إليه«.
وهذه الحقوق ترجع في حقيقتها الى صوم او امتناع خاص بكل واحد من الاعضاء والجوارح عبَّر عنها الامام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله:
" اذا اصبحت صائماً فليصم سمعك وبصرك من الحرام، وجارحتك وجميع اعضائك من القبيح.." .
ولذلك كان من دعاء الامام زين العابدين عليه السلام إذا دخل شهر رمضان ".. واعنّا على صيامه بكف الجوارح عن معاصيك واستعمالها فيه بما يرضيك حتى لا نصغي باسماعنا الى لغو، ولا نسرع بابصارنا الى لهو، وحتى لا نبسط ايدينا الى محظور، ولا نخطو باقدامنا الى محجوز". 
آمين رب العالمين.