يجمع المختصون في تاريخ الأديان، وخاصة منهم الذين تعمقوا في الفكر الإسلامي، وأصول الأديان، أن العقيدة المهدوية هي جامع مشترك بين الديانات التوحيدية ذات الأصل الإبراهيمي.وليست وقفاً لا على الشيعة الإمامية، ولا على المسلمين. وإن تباينت التسميات، واختلفت الحيثيات والكيفيات، فالجميع يؤمن بـ«مهدي ما».
العقل التوحيدي، ببعده اليهودي، ينتظر إيليا الموعود، والمسيا المخلص، العقيدة المسيحية ليست في غربة عن «المجيء الثاني» للسيد المسيح، التأصيل الفكري والفقهي للعقيدة المهدوية موجود بكثافة في نصوص الأحاديث، فيصبح في المدرسة السنية للحديث خروج المهدي من اشراط الساعة وأنه «لابد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيّد الدين ويظهر العدل... ويسمى المهدي»، حتى المدرسة السلفية المتمثلة بالشيخ عبد العزيز ابن باز تصرح أن «أمر المهدي أمر معلوم والاحاديث فيه مستفيضة بل متواترة متعاضدة فهي بحق، تدل على أن هذا الشخص الموعود به أمره ثابت وخروجه حق».
التأصيل الشيعي الإمامي الإثني عشري لموضوع المهدوية مرتبط موضوعياً وفقهياً وفكرياً بأيديولوجية الإمامة، والفارق الجوهري بينها وبين الخلافة. فالإمام، بخلاف الخليفة، هو المتولي لأمر المسلمين الديني، ويعود إليه فقط تفسير النصوص المقدسة، ولعل ملف ولاية الفقيه الذي سنتناوله إن شاء الله في غير حلقة، يوضح أكثر الملابسات التاريخية لموضوع التلاقي بين الفكرتين المهدوية والإمامية.في حين يرى الفقه التوحيدي «الدرزي» وعمه الشيعي الإسماعيلي، أن فكرة عودة الإمام الغائب فرض لازم لتمام الأدوار، واستناداً إلى الفكرة القديمة لغيبة الإمام، ووعده بالعودة.
في هذه الحلقة، وبمناسبة الخامس عشر من شعبان، ولادة المهدي المنتظر للشيعة الإمامية الإثني عشرية، وهي ليلة خاصة جداً للشيعة، إذ يقول الإمام الباقر «هي أفضل الليالي بعد ليلة القدر، فيها يمنح الله العباد فضله، ويغفر لهم بمنّه، فاجتهدوا في القربى الى الله تعالى فيها، فإنها ليلة آل الله (عز وجل) على نفسه أن لايرد سائلاً فيها، مالم يسأل الله المعصية، وإنها الليلة التي جعلها الله لنا أهل البيت بإزاء ما جعل ليلة القدر لنبينا(ص) فاجتهدوا في دعاء الله والثناء عليه».
سنخصص هذه الحلقة للحديث عن ولادة هذه الشخصية التاريخية في الخامس عشر من شعبان من العام مئتين وخمس وخمسين للهجرة، والمختفية منذ ما يناهز ألف ومئة وتسع وسبعون سنة، وهو الإمام محمد بن الإمام الحسن العسكري بن الإمام الهادي بن الإمام الجواد بن الإمام الرضا بن الإمام الكاظم بن الإمام الصادق بن الإمام الباقر بن الإمام السجاد بن الإمام الحسين بن الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين. وأمه هي السيدة نرجس بنت يشوع بن قيصر ملك الروم وهي من ذرية شمعون الصفا وصي عيسى (وقيل غير هذا في غير مرجع).
وتروي كتب الحديث الجعفرية قصة ولادة هذا الإمام، تقول عن حكيمة بنت الإمام الجواد، وأُخت الإمام الهادي وعمّة الإمام العسكري قالت: بعث إليَّ أبو محمد الحسن بن علي فقال: يا عمة إجعلي إفطارك الليلة عندنا، فإنها ليلة النصف من شعبان، وإن الله تبارك وتعالى سيظهر في هذه الليلة الحجة، وهو حجته في أرضه وفي رواية: فإنه سيولد ـ الليلة ـ المولود الكريم على الله عز وجل، الذي يحيي الله عز وجل به الأرض بعد موتها.قالت: فقلت: ومن أمه؟ قال لي: نرجس.فقلت له: جعلني الله فداك ما بها أثر؟ فقال: هو ما أقول لك.فقلت: فجئت فلما سلمت وجلست جاءت (نرجس) تنزع خفي وقالت لي: يا سيدتي وسيدة أهلي كيف أمسيت؟ فقالت: بل أنت سيدتي وسيدة أهلي.
فأنكرت قولي وقالت ما هذا يا عمة؟ وفي رواية أخرى: فجاءتني نرجس تخلع خفي، فقالت يا مولاتي ناوليني خفك. فقالت: بل أنت سيدتي ومولاتي والله لا أدفع اليك خفي لتخلعيه، ولا لتخدميني، بل أنا أخدمك، على بصري. قالت حكيمة: فقلت لها: يا بنية إن الله سيهب لك في ليلتك هذه ـ غلاماً سيداً في الدنيا والآخرة.
وفي خبر الولادة قصة شيقة، أن العسكري قال إقرئي عليها: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) فأقبلت أقرأ عليها كما أمرني، فأجابني الجنين من بطنها يقرأ كما أقرأ، ففزعت لما سمعت، فصاح بي لا تعجبي من أمر الله عزوجل ان الله تبارك وتعالى ينطقنا بالحكمة صغاراً، ويجعلنا حجة في أرضه كباراً فلم يستتم الكلام حتى غيبت عني نرجس، فلم أرها، كأنه ضرب بيني وبينها حجاب.
وتضيف الرواية أن المولود لما نزل جلس على مساجده، وعلى يمينه مكتوب جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً، وأنه كان (المولود) يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن جدي محمد رسول الله وأن أبي أمير المؤمنين ولي الله ثم عد الأئمة إماماً إماماً إلى أن بلغ إلى نفسه ثم قال: (اللهم أنجز لي ما وعدتني، وأتمم لي أمري، وثبت وطأتي وأملأ الأرض بي عدلاً وقسطاً ثم رفع رأسه من الأرض وهو يقول «شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم، قائماً بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم، إن الدين عند الله الإسلام». ثم عطس فقال: «الحمد الله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله» وزعمت الظلمة أن حجة الله داحضة لو أذن لنا في الكلام لزال الشك».
طبعاً الكلام من المصادر التاريخية، والروايات والاحاديث المتواترة عند الشيعة وفي كتب الحديث في ذكر ولادة المهدي، ولنا في الحلقات المقبلة استكمال لعرض الفكرة المهدوية في مراحلها وعند الفرق الإسلامية كافة.