تمهيد

موضوع هذه المحاضرة أو الكلمة ـ المبنية على التبسيط ـ هو الحاكم الشرعي ودوره في إدارة عملية الجهاد، ونحن هنا لن ندخل في أبحاث تخصصية أو دراسات قد تتناسب مع الجوّ الاستدلالي الحوزوي، وإنّما نريد الإطلالة فقط على هذا الموضوع من زاوية عامة.

 

الفقيه بين النزعة الانكماشية والاقتراب من الحدث السياسي والاجتماعي

بدايةً، نحن نعرف أنّ الفقه الشيعي واجه ـ نتيجة عدم خوضه لفترات طويلة في تجربة الدولة والعمل السياسي ـ مشكلةً أطلق عليها السيد محمد باقر الصدر عنوان: >النزعة الفردية الانكماشية<؛ فالفقيه لم يواجه منذ فترة طويلة تجربةً سياسية واسعة النطاق، كان يجلس في بيته، ويقتصر عمله في الغالب على المشكلات التي تأتيه وهو في البيت، كالعلاقات الزوجية والتجارة وغيرهما. وعندما تتراكم أمامه مجموعة مستجدات أو ما يسمى >فقه المستحدثات< يأخذ هذا الأمر المستجد فيبحث فيه، وعندما ينجز الفقيه الأوّل البحث في هذا الموضوع المستجد، يأتي الفقيه الآخر ليعلّق على كلام الأول.. وهكذا تدخل هذه المسألة إلى جسم الفقه الإسلامي.

هذا هو الشكل الطبيعي في الدراسات الدينية في الحوزات والمعاهد، فليس الفقيه مدير بنك يشرف على مئات من العمليات دفعة واحدة، ولم يكن وزير اقتصاد ليرى كلّ يوم المئات من أنواع الشركات التي تدخل وتخرج وتستجد، لم يكن الفقيه ينظر إلى هذا الواقع من الأعلى، والظروف أيضاً ما كانت تسمح له أن يكون في موضع الإشراف على حركة الأمور؛ لأسباب كثيرة؛ منها عزل هذا المذهب وفقهائه عن إدارة شؤون المجتمع.

وقد بدأ هذا الوضع بالتحوّل ـ شيعياً ـ منذ الحركة الدستورية في إيران >المستبدة والمشروطة< بداية القرن العشرين، فقد صار الفقيه هذه المرّة أقرب إلى الأحداث، وغدا يتداول قضايا السلطة على أعلى المستويات: هل الملك قادر على أن يبت في كلّ ما يريد دون أن نشرط قراراته بلجنة أو برلمان أو مجلس دستوري يشرف عليها أم لا؟.. كانت هذه من المرات القلائل التي يقترب الفقيه فيها من الواقع السياسي، لكنّ التجربة فشلت، واصطدمت بمشكلات عميقة، مع ذلك لم يتوقف المسار التصاعدي؛ فاستمرّ العمل السياسي للفقيه ـ ولو متقطعاً ـ يدفعه للاقتراب من الحدث، فجاءت مجموعة ثورات وحركات سياسية، من ثورة العشرين في العراق مروراً بحركة مصدّق، وصولاً إلى الثورات والحركات الإسلامية في إيران والعراق ولبنان وغيرها.

 

ظهور التقسيمات الجديدة للفقه: فقه فردي خاص وفقه اجتماعي عام

صار الفقيه هنا أكثر حضوراً وأكثر تماساً مع التحولات المعقدة في هذه الفترة؛ وإذا راجعنا كتابات وأدبيات هذه المرحلة سنلاحظ ظهور مقولات ومصطلحات جديدة لم تكن من قبل، نسمع علماء يتكلّمون عن فقه فردي وآخر اجتماعي، بعضهم يقول: فقه فردي شخصي أو فقه خاص وفقه عام، ويقصدون بالفقه العام فقه الدولة والسياسة والاجتماع، وقد تمّ تنشيط هذه المقولات إلى أن صار عندنا نوعان من الفقه، وإلا فقبل هذه الفترة لا نجد وضوحاً ولا ظهوراً لهذا التفكيك بين أنواع الفقه بهذه الطريقة، ليس هناك إثنينية جليّة.

من هذه المقدّمة ندخل إلى نقطة بالغة الأهمية، وهي أنّ كثيراً من العلماء قسّموا الفقه إلى فقه فردي وفقه اجتماعي، فقه خاص وفقه عام، إلى أن تكلّم الإمام الخميني ببعض الكلمات التي نتصل بهذا الموضوع، والتي ربما يمكن أن نستوحي منها أنه لا يوجد عندنا شيء اسمه فقه خاص وفقه عام، هذه الكلمات أطلقها الإمام الخميني في أواخر حياته بعد انتصار الثورة.

 

نظرية الاندماج والتواشج بين الفقهين: الخاص والعام

إذن ماذا يوجد؟

يوجد فقه واحد، لكن ليس هو الفقه الفردي، كما كان في الحال السابق، بل هو الفقه الذي يحمل من ناحيةٍ الفردية، ومن الناحية الثانية البعد الحكومي العام، أشبه بالكثرة في عين الوحدة كما يعبرون في الفلسفة.

ولكي أوضح هذه الفكرة، أقول من باب المثال: الآن لو فرضنا أن الفقيه يتشدّد في أمر الطهارة، فمن الطبيعي أنّه إذا أراد الإنسان أن يغتسل للجنابة فسوف يحتاج إلى مياه كثيرة، المواطن هنا ينظر إلى حياته الفردية، فلا يحسب حجم التأثير الاقتصادي والعام لهذه الفتاوى، ويعتبرها فتاوى فردية فحسب، لكنّها ليست كذلك؛ لأنك لو ذهبت إلى المسؤول عن المياه في هذه الدولة ربما تترك هذه الفتوى البسيطة بالنسبة إليه تأثيراً على صرف المياه في هذا البلد.

كذلك الحال ـ على مستوى مثال آخر ـ مسألة طهارة أو نجاسة أهل الكتاب، فقد يتصوّر أنّها محض شخصية فردية، لكنّك لو نظرت إليها من الأعلى وتصوّرت عشرات الجاليات المسلمة المنتشرة في العالم بعشرات الملايين من الناس، وأخذت تجربتهم وتأثير هذه الفتوى على حياتهم وطبيعة اختيارهم لأعمالهم، وعلى علاقاتهم الاجتماعية.. ستجد أنّها لم تكن فتوى شخصيّة فقط، وإنما هي عامّة ذات تأثير اجتماعي على ملايين الأشخاص.

من هنا، نرى أنّ الفتوى ـ ولو كانت فردية بسيطة ـ لها مساس بالشأن الاجتماعي والسياسي العام، فلا يمكن فصل الجانب الفردي في الفقه عن الجانب الاجتماعي، بل هما مندمجان في بعضهما، ولعلّ هذا هو مقصود الإمام الخميني فيما يقوله من أن الفقه بأكمله، مظهره ومكان تجسّده هو الدولة.

 

الموضوعات الخارجية بين المكلّف والفقيه

وإذا تخطّينا هذا كلّه، يمكن تقسيم قضايا الفقه الإسلامي وتطبيقاته إلى قسمين آخرين:

1 ـ مسائل فقهية توكل شؤون تطبيقها إلى آحاد المكلفين، أي أنّها بهذا المعنى تكون فرديةً، توكل إلى الفرد نفسه، فهو يحسب حسابات كيفية تطبيق هذه الفتوى أو تلك.

ومثال ذلك: إذا شككت أنّ هذا الماء نجس أو طاهر؟ فإجراء أصالة الطهارة أو الاستصحاب هنا يرجع إلى المكلف نفسه؛ حيث يقول له الفقيه في هذه الحالة: إنّ الموضوع الخارجي موكل إليك. وفي هذا النوع من الموضوعات الخارجية يمكن للفرد نفسه أن يدرس ملابسات الموضوع ويطبّق القاعدة الشرعيّة التي أعطاه إيّاها الفقيه مسبقاً.

هذا ما نسمّيه نحن هنا بالفقه الفردي، لكن بمعنى أنّ الفرد هو الذي يأخذ الفتوى ويتصرّف بها على أرض الواقع.

2 ـ القضايا الفقهية التي نسمّيها هنا بالفقه غير الفردي، لكن بمعنى آخر هذه المرّة، ولتوضيح ذلك نأخذ المثال التالي: محاربة إسرائيل، إذ لا يوجد نصّ قرآني أو من السنّة على محاربة هذه الدولة باسمها في هذا العصر، لكن عندنا قاعدة عامة تقرّر >الدفاع عن بلاد المسلمين<، فإذا قلت لعامّة الناس: >يجب عليكم أن تقاتلوا العدو إذا لم يكن في مقاتلته مفسدة<. يأتي زيد يقول: >أنا شخّصت لا توجد مفسدة فيجب أن أُقاتل<. ثمّ يأتي عمرو فيقول: >أنا شخّصت مفسدة فلا يجب القتال<.

في قضية طهارة الماء المعيّن هذا أو ذاك يرجع الأمر إلى المكلّف نفسه، لكن حينما توكل قضية عامّة إلى آحاد الناس كي يختار كلّ واحد منهم موقفاً أو يحدّد: هل هناك مصلحة أو مفسدة في الإقدام على مقاتلة إسرائيل؟.. في هذه الحال يختلف الأمر، فهناك لا يلزم أيّ محذور من إيكال الأمر إلى الآحاد، أمّا هنا فيلزم الهرج والمرج، فهذا يقاتل وذاك يمنع عن القتال وهكذا..

هذا النوع من الفتاوى والأحكام إذا ألقيناه إلى آحاد المكلفين على مستوى التطبيقات الخارجية يلزم الفوضى، واضطراب أمور الناس؛ لهذا لا تقبل الدول في العالم بذلك، من هنا لا نعتبر مثل هذه الأحكام فرديةً، على خلاف قضية طهارة هذا الماء أو ذاك، فهي قضيّة فردية بمعنى مرجعية نظر الفرد في الحكم عليها وممارسة فعل التطبيق في موردها.

بهذا نخرج ـ بعد أن أبطلنا وجود فقه خاص فردي وآخر عام سياسي واجتماعي منفصل كلّ واحد منهما عن الآخر ـ بوجود هذين الفقهين، لكن بمعنى آخر؛ يتبلور عبر القاعدة التي ستقول: كل حكم شرعي إذا أوكلته إلى آحاد المكلفين يلزم منه الهرج والمرج، لا يكون تحديده الموضوعي ـ بمعنى تحديد ملابسات الحكم ميدانياً ـ بيد الناس، بل بيد شخص آخر، وكلّ حكم لا يلزم من إيكاله للآحاد من الناس ذلك، يكون شأنه راجعاً للمكلّف نفسه؛ لعدم وجود دليل على ولاية أحد على المكلّفين في أمر التطبيق فيه. وربما تكون هذه القاعدة متفقاً عليها.

 

معنى جديد للفقه الخاص والعام

إذن، لا يوجد فقه فردي خاص وفقه اجتماعي عام، فهما في حالة دمج وانصهار، لكن يمكن أن نؤسّس لهما بتصوّر آخر، وهو أنّ الفقه الفردي هو الفقه الذي يمكن أن يحيل فتاواه وأحكامه ـ ميدانيّاً ـ إلى آحاد المكلفين ليكون أمره بيدهم فلا يحتاجون إلى مراجعة جهة أخرى، أما الفقه غير الفردي فهو الفقه الذي لا يمكن إيكاله إلى آحاد المكلفين للزوم الهرج والمرج من ذلك، فيكون شأن البتّ فيه لجهة أخرى.

من هذا الفقه العام غير الفردي ـ بهذا المعنى ـ بالذات، ندخل إلى فكرتنا الرئيسة حول قضية الجهاد؛ حيث يقول الفقهاء في كتابي: القضاء والاجتهاد والتقليد: mالفتوى هي الحكم الكلي على الموضوع الكليn؛ فالفقيه يقول: يحرم شرب الخمر، ولا يقول: يحرم شرب هذه الخمر، فلا يتكلّم باسم الإشارة (هذا وهذه) ، وإنّما يأخذ الشرب كمفهوم كلي ويأخذ الخمر كمفهوم كلي، ويأخذ الحرمة أيضاً في السياق نفسه، فيقول لك: الحكم بالحرمة مترتب على الشرب المتعلّق بالخمر. فمن الواضح أنّ الواقع الخارجي ليس من شأن الفقيه، وإنّما هو من شأن القاضي الذي يتدخل في الواقع الخارجي باستخدام اسم الإشارة، حيث يقول: هذا المال لزيد وليس لعُبَيد، فبينما كان المفتي يضع الحكم الكلي على الموضوع الكلي، كان القاضي يطبّق الحكم على المصاديق الخارجية على أرض الواقع.

 

دور الحاكم في الفقه العام بالمعنى الجديد

إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا التمييز بين الفتوى والحكم، فتوى المفتي وحكم القاضي، يمكننا أن نضع القضايا التي لا يمكن إيكالها إلى الآحاد من الناس، أو القضايا العامة أو ما يسمّيه العلامة شمس الدين >الفقه المجتمعي<، نضعها بيد الحاكم الشرعي؛ فهنا لا يمارس الحاكم موقع المفتي؛ فلا يكتفي بالفتوى الكلية، بل يقترب من موقع القاضي، ليدخل للمصداق ويحدّد موقفه منه، فهذه هي الطريقة التي ترفع الهرج والمرج، ولا أقلّ هي إحدى الطرق الممتازة.

 

أزمة الفردية في البحث الفقهي حول الجهاد

إذا جئنا إلى قضيّة الجهاد، نلاحظ أنّ الجهاد لا يمكن أن يكون فقه أفراد، رغم أنّ الكثير من الأبحاث الفقهية تعاملت معه ـ وبكامل الأسف ـ تعاملها مع الفقه الفردي، وأضرب مثالاً على ذلك مسألة ما إذا كان عدد العدوّ على الضِّعْفِ من عدد المسلمين، فكثير من الفقهاء يقولون: إذا كنت تقاتل في المعركة وجاءك ثلاثةٌ من الأعداء فلا يجب عليك القتال، بل يجوز الفرار. فنحن نلاحظ هنا بوضوح كيف أُخِذ مفهوم القوّة أخذاً فرديّاً، ولم تحسب المسألة على مستوى علاقة جيشين تابعين لدولتين، وإنما حصرت بفرد يقابله فردان أو ثلاثة في زاوية من زوايا المعركة، نعم، لقد نظر إلى هذا الموضوع الهامّ جداً نظرة بحت فردية!!

هذا النمط من قراءة بحث الجهاد بالغ الخطورة؛ حيث يؤدي إلى حصول نتائج خاطئة في الاستنتاج الفقهي العام، فيما نلاحظ أنّ الخطابات القرآنية الموجهة في قضايا الجهاد خطابات مجتمعية عامّة وليست فردية فقط؛ لأنّ الجهاد شأن مجتمعي عام لا يدخل في دائرة الفقه الفردي الذي توكل قضاياه إلى آحاد الناس، وهذا أمر عقلائي قامت عليه السيرة العقلائية في قضايا الحرب والسلم.

 

مشروعات تعطيلية ذات قراءة اجتهادية

وبهذه الخطوة التي خطوناها، نريد الآن أن ننظر لقضيّة الجهاد بأنواعه وأشكاله، لنرصد طبيعة حركة إدارته في المجال السياسي والاجتماعي؛ فنحن نلاحظ أنّ الفقه الإسلامي بمدارسه، وليس فقط الفقه الشيعي، قسّم الجهاد إلى قسمين: ابتدائي، ودفاعي. بل يعتبر بعضهم أنّ الأصل في الجهاد هو الابتدائي، أما الدفاعي فيلحق إلحاقاً بالجهاد. وعندما تحدّث الفقهاء عن أحكام هذين النوعين من الجهاد قالوا بأنّ الجهاد الابتدائي مربوط بالمعصوم، أما الدفاعي فليس كذلك بل ولا يرتبط بالحاكم الشرعي أيضاً؛ وهذا معناه أنّ الجهاد الابتدائي خاص بالمعصوم بحيث لو جاء الحاكم العادل ـ ولو كان فقيهاً ـ لا يمكنه أن يمارسه، فيما الجهاد الدفاعي ليس مربوطاً بأحد على الإطلاق، لا بالمعصوم ولا حتى بالحاكم الشرعي ولا غير الشرعي، فقيهاً كان الحاكم أم غير فقيه. بل أيّ فرد يمكنه أن يمارس الجهاد الدفاعي من تلقاء نفسه، تماماً كما يتعامل مع طهارة ماء منزله في هذا الإبريق أو ذاك.

هذا التعاطي مع قضيّة الجهاد ليس شأناً خاصّاً به، بل نحن نجد أنّ هناك عدّة فرائض كبرى ربطت ـ على صعيد بعض النظريات في الفقه الشيعي ـ بالإمام المعصوم، مثل وجوب صلاة العيدين، وكذلك صلاة الجمعة، وكذا إقامة الحدود والتعزيرات، وعلى المنوال عينه إقامة دولة إسلامية، وهكذا.

ولن نخوض في بحث فقهي استدلالي في هذا المضمار؛ فقد بحثنا هذه النقطة في محلّه، لكن ما يبدو أنّه السبب الأبرز الذي دفع الفقهاء إلى مثل هذه القناعات التي عطّلت بعض الفرائض في زمن الغيبة، هو وجود كلمة >إمام< في بعض الروايات التي تحدثت عن هذه الفرائض، وقد حصل إسقاط وتأثر بالدراسات الكلامية على هذه الموضوعات الفقهية، ونتيجة رسوخ التلازم بين هذا التعبير وبين الإمام المعصوم تصوّر بعض الفقهاء أنّ المقصود بالإمام هنا هو المعصوم.

على سبيل المثال، رواية مشهورة في كتاب الجهاد تعرف بخبر بشير الدهان، عن أبي عبد الله×: إني رأيت في المنام إني قلت لك أن القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير. فقلت لي: >نعم هو كذلك<. فقال الإمام أبو عبد الله×: >هو كذلك، هو كذلك<.

معنى هذه الرواية ـ عندما نفسّر كلمة الإمام فيها بالمعصوم ـ أنّه يحرم على الإنسان أن يقاتل أو يجاهد إلا بحضور المعصوم.

في السياق نفسه خبر آخر هو رواية الأعمش، قال: >والجهاد واجب مع إمام عادل، ومن قاتل دون ماله ورحمه ونفسه فهو شهيد<. فالجهاد من خلال هذه الرواية مربوط أيضاً بالمعصوم.

دعونا نتأمل هاتين الروايتين ومعهما العديد من الروايات الأخرى، سنجد قضيّتين:

 

1 ـ نقد نظرية ربط الجهاد بالمعصوم

من الواضح أنّ هذه الروايات لا تقييد فيها بالجهاد الابتدائي، بل تتحدث عن مطلق حرب وقتال، ما لم يكن دفاعاً شخصيّاً عن النفس، إذاً فالمفترض أن نحرّم الحرب والجهاد حتى الدفاعي إلى ظهور الإمام، فأيّ معنى للتمييز بين نوعي الجهاد المتقدمين؟!

لا يوجد في أي رواية شيعية ولا سنيّة عبارة جهاد ابتدائي وأمثال ذلك، فلماذا نقيّد شرطية حضور المعصوم بمورد الجهاد الابتدائي دون الدفاعي؟! وإذا قلت لي: إنّ الجهاد الدفاعي ليس جهاداً، قلت لك: هذا تحكّم، فقد خاض النبي عدّة حروب دفاعية وكانت تسمّى جهاداً، وها نحن اليوم نخوض حروباً دفاعية في المنطقة أليست هذه جهاداً وقتالاً في سبيل الله؟! ألا يصدق عليها المفهوم القرآني للقتال؟! وما هو الدليل بعد اعتراف العرف والعقلاء بأنّها قتال؟ إذاً فالمفترض أنّ هذه الروايات تشمل نوعي الجهاد معاً، فهل يلتزم الفقهاء بذلك؟ أليس ذلك منبهاً على خطأ النتيجة الفقهية التي تربط الجهاد بالمعصوم؟

نعم الدفاع الشخصي ليس جهاداً وإن كان للمدافع أجر الشهيد، فليس مربوطاً بالإمام؛ لذلك ميّز الإمام في الرواية بين من يقتل دون ماله وعرضه وبين أصل مسألة الجهاد؛ فالدفاع الشخصي ليس مربوطاً بالإمام، ولكنه ليس جهاداً.

 

2 ـ تأصيل نظرية ربط الجهاد بمطلق الإمام العادل

لا يوجد عندنا في أيّ رواية من روايات هذا الموضوع تعبير (المعصوم)، وإنّما لدينا كلمة >إمام<، وهي ليست مصطلحاً خاصّاً بالمعصوم في لسان الروايات، وإنّما هي مطلقة بحسب دلالتها اللغوية والعرفية.

إذن، من ناحية لا يوجد عندنا في هذه الروايات تمييز بين الجهاد الدفاعي والابتدائي، ومن ناحية أخرى نجد أنّ هذه الروايات تربط الجهاد بأن يكون مع إمام عادل، ولا تقيّد هذا الإمام العادل بأن يكون معصوماً أو منصوصاً عليه من قبل الله تعالى؛ ممّا يجعلها تشمل كلاً من الجهاد الابتدائي والدفاعي من جهة والإمام المعصوم وغيره من جهة أخرى.

يضاف إلى ذلك، أنّ الجهاد الدفاعي كالابتدائي من القضايا العامّة التي تترتب عليها مصالح ومفاسد، ولا يمكن إيكالها إلى آحاد الناس؛ إذ لو استقر عدوّ مثل الكيان الصهيوني اليوم في بلد إسلامي كفلسطين، لا يمكن جعل قضية مواجهته بيد الآحاد، لاسيما مع اختلاف الأنظار، وهذا معناه أنّه يجب أن يكون الحاكم الشرعي الجامع للشرائط هو المشرف على قضية الجهاد الابتدائي والدفاعي معاً، باستثناء الدفاع الشخصي كما قلنا.

وبهذا يتبيّن أنّ ربط الجهاد الابتدائي بالمعصوم لا أساس له يمكن الركون إليه، كما أنّ تحرير الجهاد الابتدائي والدفاعي من الارتباط بالحاكم الشرعي هو الآخر يقع على خلاف متون الروايات، وعلى خلاف البناء العقلائي في إحالة مثل هذه القضايا إلى الجهات المشرفة على الشأن العام؛ فالصحيح ربط أيّ مواجهة تخوضها الأمة بإشراف الحاكم الشرعي.

وننبّه أخيراً، إلى أنّنا لا نحدّد هنا من هو الحاكم الشرعي، وما هي مواصفاته، وإنّما نأخذ مطلق الدولة الشرعية أو الجهة الشرعية التي لها إشراف على القضايا العامة للمسلمين، أمّا تحديد الأمور بشكل تفصيلي فهو بحث موكول إلى مسائل الفقه السياسي الإسلامي.