بعد مضيّ أكثر من أربعة أشهر على شغور منصب رئاسة الجمهورية، وتعطيل رأس المؤسسات الدستورية، وبعد الإرتباك الدائم في انتظام ممارسة الحكومة لصلاحياتها المحدودة، بسبب مشاغبات جبران باسيل، ومقاطعة وزراء التيار العوني لجلسات حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نجيب ميقاتي، وبعد تكريس منع المجلس النيابي عن التشريع بسبب فقدان نصاب جلساته، هكذا بات البلد تائهاً في دهاليز التعطيل، دهاليز حُكّامٍ برعوا في عمليات نهب المال العام، وتجاوز القوانين التشريعية والدستورية، وتاه اللبنانيون بلا دليلٍ ولا بصيص أملٍ للخروج من دوامة الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنمائية، يبحثون بلا طائلٍ عن "مُخلّص"، أو "فادي"، أو "مهدي" يظهر فجأة لتأديب وترويض هذه الطبقة السياسية الفاسدة، والقوى المساندة لها، والتي أصبحت عصيّةً على كلّ تقويمٍ أو تهذيب. بعد انتهاء ولاية الرئيس الراحل الياس سركيس عام ١٩٨٢، أعلن قائد القوات اللبنانية يومها بشير الجميّل ترشيحه لرئاسة الجمهورية، وترشح مقابله الرئيس الراحل كميل شمعون، فما كان من بشير الجميّل إلّا أن قصد شمعون وطالبه بلهجةٍ حازمة بسحب ترشيحه، والتّفضل بحضور جلسة انتخاب الرئيس العتيد لتأمين نصاب الجلسة، وهكذا كان، والشيئ بالشيء يُذكر، ويُقال في ما تواتر للأسماع، أنّ رئيس الحكومة الراحل صائب سلام، كان ممّن عارضوا انتخاب الجميّل لرئاسة الجمهورية، وقاطع جلسة الإنتخاب، لِيجتمع به بعد ذلك، ويقول بأنّ بشير الجميّل سحرَهُ بشخصه، وأقنعه بخطابه "الوطني"، ويلتقي بعد ذلك الرئيس سلام بقنصل الولايات المتحدة الأمريكية في لبنان، ويعجب القنصل منه قائلاً: كيف أصبحت مُقتنعاً بشخص بشير الجميّل، والحرب الأهلية ما زالت مستعرة، فأجاب سلام، التّواق للخروج من دوامة الحرب الأهلية: هذا( أي بشير الجميّل)، يعرف كيف يُربّي (أي يؤدّب ويُروّض) من عنده في المنطقة الشرقية، قبل أن يتفرغ للّذين عندنا في المنطقة الغربية. ذهب كميل شمعون وصائب سلام وبشير الجميّل إلى ذمّة الله، لم يبقَ بين ظهرانينا من يجرؤ على أن يُربي، أو يؤدب أو يُروّض، لم يبقَ عندنا سوى ساسة "بهلوانيون" فاسدون، يُتقنون فنون اللعب على الحِبال، وزرع الفِتن الدينية والمذهبية والعنصرية، لا يردعهم وازعٌ أو ناهٍ عن عمليات النهب واستغلال النفوذ وتكديس الثروات المنهوبة. قال الشاعر طرفة بن العبد: ستُبدي لك الأيام ما كُنتَ جاهلاً ويأتيك بالأخبار من لم تُزوّدِ.