كان الراحل غازي كنعان( رئيس جهاز الأمن والإستطلاع في القوات السورية أواخر القرن الماضي) قد برع في إرغام اللبنانيين على الإقتناع بأنّ الدولة(اللبنانية ) مجرد قشرة خارجية مُصطنعة، وأنّها نافلة يمكن اطّراحها والإستغناء عنها من غير ضررٍ كبير، وكان "المُثقفون" اليساريون سباقين في هذا الإطراح، عندما كانوا لا يترددون عن وصم تاريخ الدولة اللبنانية(أيام المارونية السياسية) بالظلم والقسر والطغيان، وترافق هذا الطور مع تدمير ما تبقى من الدولة على يد الإحتلال الإسرائيلي، فطفت على السطح عبارات انكفاء الجماعات على نفسها، وتوزعت على هوياتٍ حائرة لا هيكل لها ولا قِوام، وما لبثت عبقرية غازي كنعان حتى تجلّت بجرّ جماعات شيعية متعاظمة في الجنوب وبيروت والبقاع إلى مقاتلة جماعات فلسطينية تتصدرها حركة "فتح"، ومقاتلة جماعات لبنانية أبرزها الشيوعيون وحلفاؤهم، ثم أردف كنعان بعد ذلك باستعداء الجماعات والعصبيات قديمها وجديدها بعضها على بعض،  فلم تبق جماعة لم تنقسم على نفسها، انقسم القوميون السوريون إلى حزبين مسلحين، وانقسمت القوات اللبنانية حزبين، قبل أن ينقسم شطرها الأكبر أحزاباً، وانقسمت الكتائب، وانقسم المسلمون السّنة، وانقسم "أهل" طرابلس  وتفرّد الشيعة ب"توحدهم" على ثنائية مُركبة عجيبة، وتوحدوا على "مقاومة" كانت السُّلم الذي صعدوا عليه فيما بعد لحكم لبنان بأكمله.

 


في هذا البحر المتلاطم على أرض لبنان الكبير ومساحته المحدودة، اجتاحت إيران لبنان "العربي"، واستثمرت حدوده مع إسرائيل، وانتهز غازي كنعان هذه الهدية "المجانية"، فأرجَع القوات السورية إلى لبنان( بعد خروجها منه غداة احتلال إسرائيل له عام ١٩٨٢)، بواسطة إقتتال درزي شيعي،  وشيعي شيعي، وشيعي شيوعي، وشيعي سنّي، وفي حين كان غازي كنعان يقوم بافتعال مسرحيات بهلوانية، جمع أطراف الإتفاق الثلاثي الذي شقّ القوات اللبنانية والمسيحيين عموماً، ورعا مع الحرس الثوري الإيراني قوة عسكرية وأمنية مهيمنة، تبلورت تحت مُسمّى"المقاومة الإسلامية" وذراعها حزب الله: المنظمة السياسية والعسكرية والإيديولوجية، ونواة طبقة حاكمة مذهبية، حتى أطلق أحد الكتاب السوريين( عبدالله الأحمد) على حزب الله إسم: سرايا غازي كنعان، هذه السرايا لم تلبث أن شقّت الدولة اللبنانية بصيغتها الجديدة بعد اتفاق الطائف، وأبطلت شرعيتها وتجانسها، وأكملت فضائلها على اللبنانيين برعاية تحالف أقلّوي طائفي مع التيار الوطني الحر بزعامة الجنرال ميشال عون، وما لبثت أن حملته إلى سدّة الرئاسة الأولى، فسقط لبنان بين كمّاشتَي المقاومة والممانعة وتيار عون الذي تزعمه صهره الفاسد جبران باسيل، حتى انهارت الدولة اللبنانية ومؤسساتها المختلفة، وبات العجز شاملاً كافة نواحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنمائية، وتعجبون بعد ذلك كيف لا تؤلّف حكومة جديدة، ولا يُنتخب رئيس جمهورية جديد، أو كيف تمّ "قبع" القاضي فادي صوان، أو كيف كُفّت يد القاضي طارق بيطار وما زالت مغلولة.