لطالما اشتكى المسيحيون أواخر القرن الماضي من إحباطٍ  وعزلٍ أصاب الساحة السياسية المسيحية في قياداتها، فالتيار العوني الصاعد حينها عانى من نفي قائده إلى فرنسا، والرئيس أمين الجميّل في منفى إختياري بعد ضمور الدور الريادي لحزب الكتائب، وتلقيه تهديداتٍ شتى،  وقائد القوات اللبنانية بات أسير السجن بعد حلّ حزب القوات اللبنانية  والحكم عليه بالإعدام، وتخفيض العقوبة إلى السجن المؤبد، ورغم مقاطعة المسيحيين عامةً لانتخابات عام ١٩٩٢، فقد التئم المجلس النيابي تحت هيمنة الوصاية السورية على لبنان، رغم فقدان التمثيل المسيحيي الصحيح، ولم ينبس أحدٌ يومها بكلمة عن "الميثاقية المفقودة"، والمقصود بذلك الشريك المسلم المفترض أن يتضامن مع شريكه المسيحيي، وذلك رغم تصاعد لهجة الإحتجاج من البطريركية المارونية التي كان يرأسها البطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير، وشهدت تلك الفترة أحداثاً هامة، لعل أبرزها دخول الرئيس الراحل رفيق الحريري حلبة المسرح السياسي اللبناني، والذي طبع بشخصه ومشاريعه وتحالفاته ومناوراته المشهد السياسي والإجتماعي في لبنان طوال خمسة عشر عاماً، ثم ما لبث أن حلّ العام ألفين، ليرتاح فيه لبنان من وطأة الإحتلال الإسرائيلي لمناطق واسعة من جنوب لبنان، وغياب الرئيس حافظ الأسد في سوريا وتولي نجله بشار الأسد حكم سوريا بعده.

 


استمرت الشكوى المسيحية بعد ذلك من وطأة الوصاية السورية على لبنان، وتصاعدت مع اجتماعات خلوة سيدة البير، وإشراف نيافة البطريرك صفير، وطالبت صراحة بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد إنجاز الإنسحاب العسكري الإسرائيلي، وفي هذا الخضم  تتالت صيحات المطالبة بعودة القيادات المسيحية الفاعلة إلى المعترك السياسي، وفي مقدمها الجنرال ميشال عون من منفاه في فرنسا، وخروج الدكتور سمير جعجع من سجنه، وساد شعورٌ عام أنّه بدون هذين الزعيمين( عون وجعجع) لن تقوم للمسيحيين قائمة، خاصة بعد تربّع الرئيس نبيه بري على كرسي رئاسة المجلس النيابي واحتكاره المناصب النيابية والوزارية والإدارية العائدة للطائفة الشيعية،   وكذلك تربع الرئيس رفيق الحريري على كرسي رئاسة الحكومة، وبسط نفوذه على المناصب النيابية والوزارية والإدارية الحساسة، فضلاً عن وضع يده على ورقة إعادة الإعمار  وفتح أبواب المديونية العامة على مصراعيها، في حين أصبح رئيس الجمهورية الماروني (الياس الهراوي ) رهين المحبسين( الوصاية السورية والهيمنة الحريرية ).

 


تتالت الأحداث بعد ذلك، وخرج الدكتور سمير جعجع من سجنه، وعاد الجنرال ميشال عون من منفاه بمساوماتٍ مُتعرجة، لعل أبرزها مع الوصاية السورية، وقال حينها البطريرك صفير: أصبح للمسيحيين اليوم زعيم، وحدثت بعد ذلك أحداث تاريخية: جرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام ٢٠٠٥، وتلى ذلك انسحاب الجيش السوري بعد انتفاضة الشعب اللبناني في ١٤ آذار، ليجد اللبنانيون أنفسهم لأول مرة أمام مسؤولياتهم في تسيير شؤون الحكم والسلطة، وبعد اضطراباتٍ عديدة ومساوماتٍ شتى، رافقت وضع حزب الله يده على مفاصل السلطة في لبنان، جرى انتخاب الرئيس ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد اتفاق الدوحة عام ٢٠٠٨، لتخلو سدّة الرئاسة الأولى عام ٢٠١٤ لمدة قاربت الثلاثين شهراً، حتى وضع اتفاق معراب عام ٢٠١٦ بين القوات اللبنانية والجنرال عون حدّاً لهذه المهزله، بحمل عون إلى سدّة الرئاسة الأولى بمباركة عدوه القديم سمير جعجع، فكانت الطامّة الكبرى والإنهيار الشامل بعد وضع رئاسة الجمهورية ورئاسة المجلس النيابي ورئاسة الحكومة في عهدة حزب الله الطاغي بسلاحه وتحالفاته، ليجد المسيحيون ومعهم سائر اللبنانيين أنّ منصب رئاسة الجمهورية الذي وُضع بين يدي المُنقِذين المُفترضَين(عون وجعجع ) أضاع البلد بأكمله ودفعه إلى حافة الزوال، ومن سخرية القدر أنّ رئاسة الجمهورية الداهمة عام ٢٠٢٢، ما زالت بين يدي هؤلاء الزعماء "الأقوياء"، وما زال حزب الله مُسلّطاً على رقاب الجميع  ولربما يأتي يومٌ على المسيحيين ليتحسّروا بالقول: ليت الذي جرى ما كان: وليت الذي كان منفيّاً لم يعد من منفاه،  وليت الذي كان في سجنه أنهى مدّة حكمه.