مع اندلاع انتفاضة الشعب الإيراني بعد مقتل الناشطة مهسا أميني، في وجه سلطة الملالي القمعية المُتحجرة، عادت إلى الواجهة مسائل التسامح الديني المُتشابكة مع الأحكام الفقهية الجامدة، وفي طليعتها مسألة حجاب المرأة، وفي هذا الصدد علينا أن نعترف بأن لا تسامح البتّة في نطاق العقل الديني، لا تسامح في نطاق الفضاء الذهني بكلّ عقل ديني مُجمّد ومسجون داخل لاهوت معين وقانون مقدّس (شريعة)، فهو يستبعد بالضرورة كل صلاحية فكرية وروحية للحقائق الخارجة على الحقيقة الوحيدة المطلقة  والتي تؤسّس التراث الأورتوذكسي( اي التراث الحقّ أو المستقيم)، وهذا ينطبق على كافة الأديان، فالقديس توما الأكويني كان يقول بأنّ البدعة أو الهرطقة هي المقاومة التي يُوجهها بعضهم ضد الحقيقة المطلقة( الله)، وهذا ما ذهب إليه جميع مؤلفي كُتب البِدع المسلمين( المِلل والنِحل للشهرستاني والفرق بين الفِرَق للبغدادي).

 


إنّ كل أنماط الدولة وأنظمة الحكم التي تعاقبت على أرض الإسلام  من الخلافة إلى الإمامة إلى الإمارة إلى السلطنة، كانت قد تشكلت من أجل تطبيق القوانين التشريعية الناتجة عن المذاهب اللاهوتية- السياسية، وهذا ما يُساعد مثلاً في فهم القانون العثماني الذي كان لا يسمح ببيع الخمور علناً، وبما أنّنا لا نزال في الفضاء العقلي للقرون الوسطى(إيران أفضل مثلٍ على ذلك)  ستظل مسألة الإنتهاكات الصريحة للشريعة الإسلامية مطروحة بحدّة بعيداً عن أعيُن القوانين الديمقراطية الحديثة والأعراف المدنية(والحجاب أبرز مثلٍ على ذلك).

 


من العبث التفاؤل بإمكان وجود مساحة تسامح كافية مع وجود أنظمة دينية قمعية كالنظام القائم اليوم في إيران منذ أكثر من أربعة عقود من الزمن، ذلك أنّ ما قد يساعد فعلاً في رسوخ مفهوم "التسامح الديني" فيما يخصّ الحجاب والاختلاط والسفر بدون محرم، وكل ما يتصل بنشاط المرأة في حرية العمل والحركة وصيانة حقوقها وكرامتها ودورها الشخصي، هو وجود دولة حقّ مدني وقانون يضمن الحصانة المتساوية لحرية الفكر والعقيدة والسلوك ضمن القوانين الديمقراطية الحديثة المرعبة الإجراء على نطاقٍ واسع،وهذا بدوره يتطلب وجود مجتمع مدني متماسك ومُتقدم، ومُشبع إلى حد الكفاية بالثقافة الفلسفية والقانونية المتسامحة، كي يلعب دور المُساند مع الدولة، دولة القوانين الديمقراطية، لا دولة الولي الفقيه أو الحاكم بأمره، وللأسف الشديد هذان الشرطان( دولة حقوق ومجتمع مدني ) مفقودان في إيران وفي دول عربية وإسلامية عدة لا مجال لتعدادها هنا، وهذا ما يُنذر بالمزيد من محاصرة بعض المواقع والأصوات التي ما زالت تحاول المحافظة على حرياتها المدنية والحقوقية( لبنان خير مثالٍ على ذلك).

 


كانت الشريعة الإسلامية قد تولّدت في القرون الهجرية الأولى بشكلٍ تدريجيٍّ وتاريخي  لتلبية حاجات المجتمعات الإسلامية، لا ما تُحاول الحركات الأصولية الحالية اليوم ( سُنةً وشيعة)فرضهُ  على مجتمعات دخلت في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، ومهما طال الزمن أو قصُر، لن تُنقذ هذه المجتمعات سوى عودة دولة القوانين الديمقراطية الحديثة الموعودة، وقيام مجتمع مدني يدافع عن حقوقه الروحية قبل حقوقه المادية.