بعد فشل 14 اذار في تحويل العبور الى الدولة من شعار الى برنامج عمل، انتفضت الناس في 17 تشرين لتنقذ الدولة من براثن سلطة متوحشة ومتفلتة، تجيد العزف على مقام ما خلونا نعزف لحن الخلود والامل المنشود، واختراع مصطلحات هجينة ...ميثاقية، ديموقراطية توافقية وغيرها من البدع الغريبة والعجيبة التي ساعدت على نهش الدولة ومؤسساتها.
 

     ما اشبه غرق لبنان اليوم بغرق سفينة "التايتنك" بعد اربعة ايام من انطلاقتها في اول رحلة لها من لندن الى نيويورك منتصف ليل العاشر من نيسان 1912. تسجل الوثائق ان الفرقة الموسيقية المتواجدة في السفينة انذاك كانت تعزف في حفل لركاب الدرجة الاولى لحظة ارتطامها بجبل الجليد، ومع ذلك بقي العزف مستمرا، وانشطرت السفينة الى نصفين وغرقت خلال ساعتين وكان العزف ما زال مستمرا!

    وبعد الاتفاق المشؤوم  والتسوية اللتين ادتا الى غرق مرفأ بيروت في الرابع من آب2020 وزيارتيّ الرئيس الفرنسي، واجتماعه مع زعماء لبنان و"ممثليه" استمر العزف على مقام الانهيار والانفجار والانشطار، ومع استمرار العزف النشاذ اطلق الرئيس ماكرون على هؤلاء الزعماء كلمة واحدة؛ "خونة". وهذا التوصيف الذي صدرعن رئيس دولة عظمى يطرح سؤال تلقائي؛ هل من ساسة وسياسة في لبنان؟؟

    لا داعي للاجابة عن الشق الاول من السؤال ما دام العزف مستمرا مع "فرقة" خلونا ما خلونا الحاكمة التي تفتقد رجال دولة وساسة  تذكرنا بشاعر القطرين في  "يوم مقتل بزرجمهر" "ما كانت الحسناء لترخي سترها لو ان في هذي الجموع رجال". اما في السياسة فمن الصعب تحديدها وجوديا، فهي ليست كامنة في الذات الانسانية، بل تنوجد في فضاء خارج اطار الانسان ـالفرد، وتتجلى بالاجتماع البشري وفي العلاقات بين الناس.

    وردا على سؤال و’جِهَ لاحد الاقطاب حول من لم يصوت له في انتخابات 2018 اجاب: في الدورة القادمة سيصوتون لي! في هذا السياق وبمعزل عن الاسباب، سجل للرئيس سعد الحريري رغم تأخره، خطوة نادرة في الانسحاب من المشهد الغائم والعائم في بحر من البؤس واليأس والاحباط وانسداد الافق، لكنه غير نادر في قراره هذا رغم انه بانسحابه قطع حبل السرة لمرحلة ممسوخة شوهاء،عرجاء،لكنها بالتأكيد ليست بتراء، استمرت منذ "الاتفاق الرباعي" الذي انتج انقسامات عمودية، أفقية، مائلة، ومنحنية لتشكل مربعات تسوّرها مكعبات وثنائيات، وتسويات "شلّعت" الاجتماع اللبناني ومزقته اربا اربا "لتتناتشه" اطراف اقليمية ودولية في حالة لم يشهدها الاجتماع السياسي.  والسؤال؛ ماذا عن البقية؟ ماذا ينتظرون؟ هل يملكون من الشجاعة ما يكفي للتنحي والرحيل؟ ليعود الفرح وتتحقق امنية الفرسان الاربعة "الزعما فلوا من لبنان ...صارت جنة دنيتنا"

      بعد فشل  14 اذار في تحويل "العبور الى الدولة" من شعار الى برنامج عمل، انتفضت  الناس في 17 تشرين لتنقذ الدولة من براثن سلطة متوحشة ومتفلتة، تجيد العزف على "مقام" ما خلونا نعزف لحن الخلود والامل المنشود، واختراع مصطلحات هجينة ...ميثاقية، ديموقراطية توافقية وغيرها من البدع الغريبة والعجيبة التي ساعدت على نهش الدولة ومؤسساتها. 
   اهم سبب في نجاح الانتفاضة رغم انها وئدت في مهدها، ان الناس كانوا موحدين،وكان هدفها واضحا. اسقطت الشرعية الشعبية عن المنظومة الفاسدة وعرتها، ولم يتنطح احد للتحدث باسمها باستثناء بعض المحاولات التي حاولت التشويش وركوب موجتها. واكدت نتائج الانتخابات في قطاعات متعددة حتمية التغيير. لكن منسوب "الانا" الذي بدا انه غرق مع التياتنك، عاد ليطفو كناجٍ وحيد مع تشكيل لوائح متفرقة متنافسة تؤدي الى شرذمة قوى التغيير واضعافها، وتقوية الخصم على اختراقها بسهولة. فكيف ستخاض انتخابات تغييرية من دون وحدة  القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في التغيير؟ ليست المشكلة في السلاح بل في من يحمل السلاح. عزف نشاز متبادل على وقعِ آتِ من بعيد، لذلك سنبقى قاصرين عن مواكبة هموم الناس وتطلعاتهم مالم نسهم في تصحيح المفاهيم والاخطاء الشائعة. وسرالنجاح في التغيير لايكمن في محاربة القديم بل في بناء الجديد. فهل نبقى بدون مستقبل نهبا لموجات الجنون والهستيريا التي تنهش ما تبقى من معنى ومبنى للحياة في لبنان؟ يقول برناردشو: ان البحر الهادىء لا يصنع بحارا ماهرا.