إلى جانب سيل المعلومات التي تحاكي شكل الحكومة الميقاتية وتركيبتها في ضوء ما تسرّب من التصور الأولي الذي قدّمه الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي في لقاء بعبدا أمس الاول، توجّهت الأنظار الى البحث عن طريقة تجاوز الشروط التي استنسخها عن سلفه، وتلك التي واجهته في آن. فحديث بعض الكتل النيابية عن عدم وجود مطالب لها لم يقنع أحداً، وإن بلغت موجة «التعفف» «التيار الوطني الحر»، يكبر العجب وتزداد الغرابة. فلماذا وكيف؟

لا يخفي المراقبون قلقهم من المواقف الملتبسة التي رافقت تكليف ميقاتي مهمة تشكيل الحكومة، وخصوصاً تلك التي تحدثت عن مناقشات تناولت مصير بعض الحقائب الامنية والعدلية والخدماتية. فلم يكن في قدرة أحد التراجع عمّا باح به، بعدما توسعت المصادر في نشر المعلومات عن شكل ومضمون الاتصالات واللقاءات التي شهدتها عطلة نهاية الأسبوع، التي تلت عودة الرئيس المكلّف من الخارج، والتي أوحت بأنّ بعض العِقَد التي واجهت الرئيس سعد الحريري عند تشكيل حكومة ما زالت قائمة، وقد يكون استحضارها مجدّداً قد ادّى الى المتغيّرات التي رافقت استشارات التكليف ودفعت «حزب الله» الى اتخاذ موقف نادر بتسمية ميقاتي.


 

وعليه، لم يصدّق احد مضمون البيانات المتزامنة التي صدرت عن «التيار الوطني الحر» ومكتب ميقاتي الاعلامي الاحد الماضي، والتي تلاقت على نفي ما تداوله بعض وسائل الإعلام عن مشاورات جرت خلال الايام الماضية «وصل بعضها الى حدّ الحديث عن طرح موضوع الحقائب الوزارية ومنها تحديداً وزارة الداخلية». ومرد ذلك العجب، الى عجز الطرفين عن نفي «العشاء السرّي» الذي جمع ميقاتي وباسيل ليل السبت ـ الاحد الماضي، وهو ما عطّل مفاعيل الموقف المزدوج المصطنع الذي خلص إلى التأكيد «أنّ ما يتمّ تداوله في هذا السياق غير صحيح على الاطلاق، خصوصاً وانّ الرئيس نجيب ميقاتي يرفض الحديث في اي أمر يتعلق بتشكيل الحكومة قبل انتهاء الاستشارات النيابية وصدور بيان التكليف».

 

ولمّا عبرت محطة التكليف، ومعها الاستشارات النيابية بمرحلتها الأولى الملزمة، فقد شهدت المرحلة الثانية غير الملزمة، على نماذج من ظاهرة «الإنكار» للحقائق و»التعفف» عن الحصص والحقائب، وكان أبرزها تلك التي اطلقها باسيل بعد «الحزب التقدمي الاشتراكي»، كما على ألسنة بعض النواب المستقلين، الذين رسموا إطاراً للحكومة العتيدة، يخفي خلفه مطالب يمكن ان تؤدي في حال تجمّعها، الى نسف الجهود المبذولة في اتجاه مقاربة جديدة يخوضها الرئيس المكلّف على انقاض تلك التي ادّت الى تعثر سلفه في توليد الحكومة، وحجم العِقد التي لم يتوافر لها حل قبل الاعتذار.

 

وقبل ان يعود ميقاتي الى بعبدا مرة ثانية امس، بقيت المعلومات محصورة بمصير بعض الحقائب الامنية والعدلية، إلى ان تسرّب «التصوّر الأولي» الذي قدّمه ميقاتي لعون، والذي تضمن توزيعاً للحقائب حسب التصنيف الذي يؤكّد وجودها. ولكن الجديد فيها، انّه يقترح حلاً لها يمكن ان يشكّل مخرجاً الى تسوية ما، تؤدي الى التوافق على شخصية تتولّى حقيبة الداخلية تكون على مسافة واحدة من كثير من الأطراف التي تتنازع عليها، ليؤدي ذلك الى الولادة المحتملة للحكومة، إن كُتب لها هذه المرة الخروج من عنق الازمة.

 

 

ومرد هذه القراءة المتفائلة، يعود الى سلسلة من التطورات الداخلية والخارجية التي فرضت قراءة جديدة للمشهد الحكومي من جهة بعبدا وأطراف اخرى كانت في صف رئيس «التيار الوطني الحر»، ظالماً كان أو مظلوماً. فقد وجدت هذه القوى نفسها في هذه المرحلة بالذات ملزمة في أن تحتسب كل جديد بدقّة. فحديث ميقاتي عن ضمانات مسبقة دفعته الى القبول بـ «المهمّة الإنقاذية» لا يعفي الآخرين من المسؤولية، ومنهم رئيس الجمهورية الذي سيكون معنياً بجديد يمكن ابتداعه. فالتمايز الذي ظهر بين الآلية التي اعتمدها عون في التعاطي مع ميقاتي قبل تكليفه وبعده، يوحي أنّه قد يكون حقيقياً هذه المرة - وان كان نادراً وغير مسبوق ـ وخصوصاً عندما يتصل الامر بما تناقض وموقف باسيل مما هو مطروح، وهو أمر يجب النظر إليه بكثير من التردّد إلى ان يثبت ذلك.

 

ففي الظروف التي تمرّ فيها البلاد، يستشرف المراقبون في حركة الاتصالات الجارية، أنّ رئيس الجمهورية ماضٍ في خيار التفاهم مع ميقاتي بحسابات اخرى، مختلفة عن تلك التي رافقت تعاطيه مع سلفه الحريري. وهو يؤكّد وجود معادلات جديدة بُنيت على موازين قوى تغيّرت وتبدّلت بين محطة الاعتذار والتكليف الجديد بوجوهها الداخلية والخارجية. وإن صحّت هذه النظرية، فإنّها تفسّر اهمية ملاحظات باسيل في صيغتها الجديدة، وتحديداً تلك التي عبّر عنها من ساحة النجمة قبل يومين، وأبقاها رهن التحقق والتجربة، في ظل نظريتين يفسرّهما قائل، بأنّها ستبقى في اطار تسجيل موقف مبدئي لا بدّ منه، وآخر يعتبر أنّها فخّ ينصبه باسيل للرئيس المكلّف.

 

في ظلّ ما هو قائم من معطيات فإنّ الاحتمال الأول هو الراجح. فموضوع نصب فخ لميقاتي لن تقف حدود نتائجه عند ردّ فعله الشخصي، بمقدار ما سيكون هذه المرة محتسباً بمعايير خارجية قد لا يكون من السهل تجاوزها او مجرد اختبارها. فأي «دعسة ناقصة» لأي من رجال العهد «المطلوب إنقاذه» لن تقف تردّداتها عند الاطراف المستهدفة داخلياً فحسب، وانما يمكن ان تنعكس على مواقف اقليمية ودولية قبل احتسابها في خانة العلاقة مع «حزب الله» من امور كثيرة. وهو ما تعمل عليه مجموعة من داخل اهل البيت لتوفير الإخراج المقنّع، ولتظهير أي تمايز حقيقي يمكن ان يكون قائماً للمرة الأولى بين بعبدا والبياضة.


 

وبناءً على ما تقدّم، لا يمكن المراقبين ان يتجاهلوا مظاهر «التعفف» عشية عملية التأليف. فمنها ما هو طبيعي وغير مستغرب، وأسباب البعض منها كان مقدّراً ومعروفاً سلفاً، وهو ما عبّرت عنه شخصيات نيابية وحزبية لا غنى عن استشارتها، فيما وجدت اخرى نفسها وقد افتقدت كتلة نيابية بين ليلة وضحاها بعد توليدها بعملية «قيصرية» محدودة الأهداف ولا مفاعيل لها في مثل ما هو مطروح اليوم. ومنها ما شكّل ردّ فعل على اختيار ميقاتي، في ظل رباعية تجاهلت بقية الأطراف المؤثرة، التي وجدت نفسها امام امر واقع لا يمكن تعديله، وهو ما عكسه موقف باسيل الذي لا يمكنه التنكّر لحجم ونوعية مطالبه التي كانت ولا تزال موضوع نقاش قبل الاستشارات النيابية وبعدها.

 

ولذلك كله، سيتجاهل المراقبون اهمية تنازل البعض عن مطالب كانت حتى الأمس حقوقاً لا نقاش فيها، وهو ما ينطبق على قلائل وابرزهم باسيل، الذي سيعجز عن المضي في مطالبه في ظل رغبته بعدم المشاركة في الحكومة وعدم اعطائها الثقة. فهو موقف يعجز العقل عن استيعابه لأسباب لا يمكن تبريرها، وخصوصاً إن كانت تستهدف العهد قبل الرئيس المكلّف.. وانّ غدًا لناظره قريب.