صورتان تختصران المشهد السياسي اللبناني: صورة الانهيار الكبير وغير المسبوق الذي يتحمّل مسؤوليته الأساسية مشروع 8 آذار السياسي المُمسك بقرار الدولة الاستراتيجي، وصورة الاهتمام الدولي الاستثنائي بالملف اللبناني في لقاءات دولية لا تهدأ، في رسالة واضحة انّ لبنان أصبح تحت المظلة الدولية التي تقوده إلى فك الارتباط مع طهران.

لم يعد باستطاعة «حزب الله» مواصلة مشروعه في لبنان وكأن شيئاً لم يكن، وإذا كان قد نجح في تجاوز تداعيات خروج الجيش السوري من لبنان على وضعه ودوره، وهو أوّل مطبّ سياسي كبير للحزب، فإنه لن يتمكّن من تجاوز تداعيات المطبّ الثاني، إنما المالي هذه المرة، لأنه في ظل الانقسام السياسي يستطيع إيجاد الحجج والتبريرات لمشروعه، ولكن كيف يمكن لمشروع قاد اللبنانيين إلى الهلاك والدولة إلى الفشل والسقوط ان يستمر على قيد الحياة؟

 

وهذا ما يفسِّر التركيز المتواصل للحزب مؤخراً على تحميل مسؤولية الانهيار المالي للخارج الدولي والأميركي تحديدا في محاولة لرفع المسؤولية عن نفسه، وتحويل الانهيار إلى مادة سياسية سجالية وانقسامية، فيما الانهيار لا يحتمل الانقسام حول من يتحمّل مسؤوليته ولا السجال حوله، لأنّ الفشل الذي أصاب لبنان سببه مشروع «حزب الله» الذي صادر قرار الدولة السياسي، ووفّر الغطاء لسلطة فاسدة من أجل ان تبادله الغطاء السياسي في تبادل للأدوار أطاحَ الدولة وقاد إلى الانهيار.

 

ويستحيل الخروج من الانهيار عن طريق إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، اي العودة بالوضع اللبناني إلى ما قبل هذا الانهيار، لأن اي محاولة من هذا النوع لا تخرج عن سياق الترقيع الذي سيقود عاجلاً أم آجلاً إلى الانهيار مجدداً. وبالتالي، لا حلّ للأزمة الحالية سوى بالذهاب إلى مشروع سياسي جديد والقطع بشكل نهائي مع مشروع «حزب الله» الذي وصل إلى نهاياته ولا ينفع رمي المسؤولية على الأميركان او الطليان، فضلاً عن ان المواطن اللبناني لن يقبل هذه المرة وبعد الذلّ الذي عاشه بأن يذهب إلى حلول جزئية وموضعية.

 

ولا يبدّل عدم اعتراف «حزب الله» بحقيقة انّ إمساكه بالدولة وتحميلها مشروعاً أكبر من قدرتها على تحمله أدى إلى الانهيار الكبير الذي يتحمّل الحزب مسؤوليته الأولى، لأنّ أي بلد تغَيّب فيه الدولة مصيره الانهيار، وهذا ليس تحاملا ولا اتهاماً، إنما حقيقة علمية ثابتة، فلا يمكن لأي بلد ان يزدهر من دون وجود دولة وقضاء ومؤسسات وسيادة وقانون.

 

وخشية «حزب الله» من ارتطام الدولة مردّه إلى إدراكه ان اي ارتطام يعني إعادة تركيب الدولة على أسس جديدة، الأمر الذي لا يريده، لأن مصلحته تكمن في إبقاء القديم على قدمه، حيث ان مصلحة الحزب تكمن في الترقيع لا إعادة النظر بالمشروع القائم منذ العام 1990، ولكن حتى لو لم تسقط الدولة بشكل نهائي بسبب السعي الدولي لمنع سقوطها خوفاً من تداعيات خطوة من هذا النوع، فإنه في الوقت المناسب سيُعاد النظر بكل السياسات المتبعة بدءاً من وجود سلاح خارج الدولة تحت مسمّى مقاومة، وصولاً إلى السياسات الدفاعية والمالية والخارجية.

 

وفي الوقت الذي يستحيل فيه على لبنان ان ينهض من دون مؤازرة خارجية، فإنّ الانهيار الكبير الذي أصابه أدى عفوياً وتلقائياً إلى رفع منسوب الاهتمام الدولي به، لأن محور الممانعة قاد لبنان إلى الانهيار وهو عاجز عن إخراجه منه، والمجتمع الدولي لن يقدِّم خدمة لهذا المحور بإنقاذ لبنان وتقديمه له مجدداً على طبق من ذهب، ما يعني انّ البلد سيكون مقبلاً على تطورات وتحولات كبرى في الأشهر القليلة المقبلة، فإمّا يكون لبنان على صورة محور الممانعة فقيراً ومنهاراً ومضطرباً، وإمّا يكون على صورة محور الاعتدال العربي والدول الغربية مزدهراً وحديثاً ومستقراً، لأنّ التعايش بين المجتمع الدولي وطهران على الأرض اللبنانية قد انتهى.

 

فلا يمكن للبنان ان يستفيد من الآن فصاعداً من مساعدة المجتمع الدولي وان يُحكم في الوقت نفسه من «حزب الله»، والفارق الأساس بين المجتمع الدولي والحزب انّ الثاني يستتبع لبنان ويمنع قيام الدولة فيه، فيما كلّ هدف الأول إعادة الاعتبار للدولة والدستور والقانون وعودة لبنان دولة طبيعية، وأبرز تطور على هذا المستوى يكمن في القرار الدولي الكبير برفض تعويم لبنان تمهيداً لتعويم الحزب، وهذه الاستفاقة الدولية ولو المتأخرة تشكل فرصة جديدة لاستعادة لبنان مقوماته السيادية.

 

ولأن الذهنية الممانعة هي نفسها، فعلى غرار ما استدرج العماد ميشال عون العالم للتدخل على أثر إعلانه حرب التحرير والتي لو لم يعلنها لما تم التوصّل إلى اتفاق الطائف ولا غيره، فإنّ الإدارة السيئة لمحور الممانعة للبنان استدرجت عفوياً التدخل الدولي مجدداً بسبب فشلها وعدم قدرتها على إدارة الدولة وتحقيق الازدهار، وهذا التدخُّل لن ينتهي سوى بتسوية جديدة، ما يعني انّ الحزب أوصَل مشروعه بنفسه إلى الحائط المسدود، وهو يقف اليوم بين مطرقة الانهيار وسندان التدويل.

 

فلبنان الانهيار لن يعود إلى ما كان عليه قبل هذا الانهيار، والدينامية الدولية التي انطلقت مع اللقاء الفاتيكاني لن تتوقّف قبل إيصال لبنان إلى شاطئ الأمان، وهذا لا يعني انّ مهمتها سهلة لأنّ طهران لن تتنازل بسهولة عن الورقة اللبنانية، إنما ستجد نفسها في نهاية المطاف مضطرة إلى التنازل عن هذه الورقة، لأنها لن تتمكن من الوقوف ولا الصمود في مواجهة الاندفاعة الدولية والقرار الدولي بإنهاء مشروع مصادرة قرار الدولة اللبنانية الذي بدأ في العام 1990، لمصلحة مشروع إعادة الاعتبار لهذه الدولة.

 

فالثابت والأكيد انّ مشروع محور الممانعة في لبنان انتهى على مستوى القرار الدولي، وانّ المسألة مسألة وقت لا أكثر، ولكن ما هو غير واضح ولا محسوم بعد يَكمن في الآتي: هل إنهاء مشروع محور الممانعة في لبنان يعني إعادة تعويم اتفاق الطائف الذي تمّ الانقلاب عليه، أم الذهاب إلى نظام سياسي جديد في لبنان؟ وهل إنهاء هذا المشروع، الذي اتخذ قرار دولي بإنهائه، سيتمّ على البارد، أم ان هذا المحور سيلجأ إلى التصعيد وممارسة هوايته المفضلِّة بالاغتيال السياسي؟ وهل التسخين يسرِّع الحل أم يعطِّله، خصوصاً انّ اغتيال الشهيد رفيق الحريري أدى إلى تسريع إخراج الجيش السوري من لبنان؟

 

كل المؤشرات تدلّ انّ لبنان مُقبل على مرحلة جديدة، ولكن ما لا يزال مبهماً هو التوقيت الذي ستستغرقه هذه المرحلة، وما يمكن ان تشهده من تطورات وأحداث غير متوقعة.