عندما لا تكون هناك دولة ولا حدود ولا شعب، انما قوى ثائرة ومتناثرة، وقوة قادرة ونافذة، تمضي الحياة بسرعة فائقة، وتُطوى الايام متثاقلة على وقع انهيارات صاخبة، هادئة ومتزاحمة، ترافقها تحليلات  بارعة، وتوصيفات  بعضها خاطئ، تزيد المشهد رثاثة وكآبة.

 

 

    الكلام الدائم عن فساد شامل ومتناسل في معظم الادارات والمؤسسات يبعث على الغثيان، خصوصا عندما يحاضر في العفة بعض رموز الفساد، كأننا في حلقة زجل  نسمع جعجعة ولا نرى فاسدا  واحدا خلف القضبان، وكأنهم اشباح  مثل "راجح" في مسرحية فيروز. وحدها سفيرة دولة "المبادرة"  الفرنسية كسرت الرتابة، وواجهت  مدير جلسة السراي بالقول؛ ان  رئيس جمهوريتها حضر الى بيروت  المنكوبة والمنهوبة مرتين خلال اسبوعين.  

 

 

    اليست هذه السلطة ساقطة؟ ألم تفشل في انقاذ القطاع المصرفي؟ ألم تدمر القطاع الصحي و"تهشّل" الجسم الطبي؟ ألم تهمش النظام التعليمي؟ ألم تخفق في دعم  الدواء والغذاء والكهرباء؟ ألم  تجعل حليب الاطفال وحبة الدواء حلما صعب المنال؟ ألم تلاحق المهربين  كالمهرجين؟ ألم تستسلم امام الاحتكارات وتكتفي بمحضر مخالفة   لبعض الدكاكين؟ ألم تتعهد بعد تفجير 4 اب بأن التحقيق سيظهر بعد خمسة ايام! وكانت من الناكثين؟

 

 

    اذن نستطيع القول ان هذه السلطات القائمة، بالتكافل والتضامن بين مكوناتها، سلطة فاسدة أدّت الرسالة بامانة، ونجحت في هدم الأسس التي ترتكز عليها دولة لبنان. هذا برنامج عملها الذي اوصلنا الى جهنم. حيث قال رئيس وزرائها في احدى تصريحاته: نفذنا 97 بالمئة من برنامج الحكومة!  انها منظومة قوية في انجاز ما تريد، وتنفيذ ما يُراد منها. ضعيفة في تطبيق الدستور وخدمة الشأن العام، تهيمن عليها حالة انكار للواقع وتعيش في عالمها  الخاص. رفضت  المبادرات   لتجاوز ازمتها والتخفيف من وطأَتها، وأفرغتها من مضامينها، غير مبالية بتداعيات  الازمات المتلاحقة على الناس. يقول افلاطون: "نصف النقاش يُختصر بتحديد الكلمات". ومع مرور الأيام سيكتشف هذا الشعب انه كان أحمقَ عندما منح الثقة لهذه الدمى، واهتم باشخاص لا يستحقون الاهتمام  بهم، وأولاهم قدرا اكبر من حجمهم . 

 

 

إقرأ أيضا : أم العشائر

 

 

 

   حالة فيها استحالة، والاكتفاء بالشكوى منها  لا يكفي. يجب العمل على ازالة البواعث والاسباب الكامنة وراء  التخبط  والانهيار. فالانسان لا يغرق لانه سقط في البحر، بل يغرق لانه بقي تحت سطح الماء. هكذا تمضي الحياة البائسة لانها تجمع بين المعرفة والضعف، وبين الجهل والقوة. وعلينا الاختيار؛ اما قوة الجهل، اوالمعرفة مع الضعف. قد تكون قوة الجهل مستمدة من القدرة على رفض ما هو واقعي وفرض ما هو غير واقعي. ما نحتاج اليه  ليس مؤتمر باريس بكل ارقامه، ولا مؤتمر سيدر الذي كان لخير لبنان انه لم ينفّذ. لو نفذ  لأدى الى زيادة اعداد الفاسدين . رغم ذلك ما زال في الزمن متسع  لحياة افضل. عندما سئل الرئيس كلينتون عن سر قوة اميركا  اجاب: "عندنا منهج تربوي واحد وكتاب تاريخ واحد".    

 

 

   ان القوى والمجموعات المدنية، خصوصًا بعد انتخابات نقابة المهندسين، صار لها وزنًا، لكنها لم تزل تحتاج الى ثقة بنفسها وبقدراتها وهي قادرة وفاعلة اذا  ارادت والتقت على برنامج عمل  قابل للتنفيذ، يقوم على تربية وطنية حقيقية، وتحقيق تنمية بشرية واقتصادية مستدامة. حتى لا يبقى العبور الى الدولة  شعارا  يستحضر ويرفع في المناسبات. فلا شيء يحمي اللبنانيين ويخرجهم من هذا الجحيم

 


ويضعهم على جادة الدولة، الا برلمان منتخب بارادة حرة يعيد تكوين سلطة  جديدة  تعمل وفق  ما نص عليه الدستور. 

 

 

يروي التاريخ ان احد الملوك اراد ان يبني قصرا جديدا مكان القصر  المتصدع. وطلب ان يؤتى باعظم المهندسين لتنفيذه. بعد انجاز العمل، سأل الملك المهندس العظيم؛ عندما كنت تهدم البناء القديم استخدمت عمالا، ثم استبدلتهم بعمال اخرين للبناء، لماذا فعلت ذلك؟

 


اجابه المهندس العظيم؛ يوجد ناس للتدمير، ويوجد ناس للتعمير. ومن يصلح للتدمير، لايصلح للتعمير.