على وقع دوي الانهيار الاقتصادي - المالي الذي لم تصل اصداؤه بعد الى آذان من يجب أن يسمع، حطّ في بيروت، وللمرة الثانية خلال شهرين، وفد اقتصادي روسي متأبطاً مشاريع حيوية. فماذا يحمل بالضبط في جعبته؟ وهل ستجد موسكو موطئ قدم لها في لبنان؟ أم انّ الظروف الجيوسياسية ليست مناسبة بعد؟
 
انتقل الروس من مستوى «جسّ النبض» الى مستوى وضع الحجر الأساس لحضور اقتصادي نوعي، في هذا البلد الباحث عن حبل نجاة يقيه من حبل المشنقة.

 

وبعد مرور نحو شهرين على زيارة وفد اقتصادي روسي للبنان لاستكشاف الأرض وتبيان إمكان الاستثمار في بعض القطاعات المنهكة، عاد الوفد الى بيروت في مهمّة تبدو هذه المرة اكثر عملانية ومحاكاة للتفاصيل، على أن يعود مجدداً بعد نحو شهر ونصف شهر، في زيارة حاسمة يحمل خلالها الى المسؤولين تصورات متكاملة للمشاريع التي يتطلع الروس الى تنفيذها، وتشمل بناء محطتي كهرباء وتشغيل مصفاتي الزهراني وطرابلس واعادة اعمار مرفأ بيروت وتوسيع مرفأ طرابلس وبناء إهراءات للقمح، يمكن أن يستفيد منها كل لبنان.

 

وبينما التقى الوفد أمس وزيري الأشغال والنقل، والطاقة والمياه، في حكومة تصريف الأعمال، عُلم انّه أنجز بالفعل دراسة مفصّلة لتشغيل مصفاة الزهراني من أجل تأمين حاجات السوق اللبنانية من المحروقات. كذلك، فإنّ خبراء يرافقون الوفد، سيجولون لثلاثة أيام على مرفأي بيروت وطرابلس لاستكمال الإحاطة بوضعيهما وعرض مشروع شامل للنهوض بهما.

 

والشركة المهتمة بالاستثمار في لبنان مصنفة أنّها قوية جداً في روسيا ولديها جهوزية عالية من حيث القدرات والخبرات، ومع ذلك هي ستستعين بشركات روسية أخرى على الصعد التقنية واللوجستية لتفعيل العمل، إذا تمّ الاتفاق النهائي مع الدولة اللبنانية.

 

وما يعكس حماسة موسكو لتوسيع رقعة المصالح المشتركة مع بيروت، عرض الشركة الروسية تنفيذ مشاريعها وفق قاعدة الـ «BOT»، وقبولها الحصول على كفالة سيادية من الدولة اللبنانية، وعدم انتظار لا صندوق النقد الدولي ولا البنك الدولي، في حين انّه عندما تكون الدولة منهارة مالياً كما هو واقع لبنان، تُطلب الكفالة من الصندوق او البنك.

 

واللافت انّ تحرك الشركة في اتجاه لبنان يتمّ بدعم وغطاء كاملين من الحكومة الروسية، التي حضر سفيرها لدى بيروت الكسندر روداكوف الاجتماعات مع الوزيرين ميشال نجار وريمون غجر، علماً انّ زوار موسكو اللبنانيين أخيراً، كانوا قد تبلّغوا بنحو واضح من المسؤولين الروس، انّ هناك قراراً لدى الكرملين بتوسيع الانفتاح الاقتصادي على لبنان وتطويره، الأمر الذي يعطي المشاريع المقترحة بعداً استراتيجياً يتصل بدور موسكو في المنطقة، وإلاتجاه نحو تعزيزه وتقويته على وقع المتغيّرات الإقليمية.

 

وقد اختصرت إحدى الشخصيات اللبنانية القريبة من موسكو هذه المعادلة بالقول: «لقد اتخذ الروس قراراً سياسياً بالدخول الى لبنان من البوابة الاقتصادية، ولمعرفة أهمية هذا القرار يكفي قياس المسافة التي تفصل بيروت وطرابلس عن قاعدة حميميم الروسية الاستراتيجية في سوريا».

 

ولكن، هل ستلاقي الدولة عروض الروس بإيجابية، ام انّها لن تملك شجاعة استكمال المشوار معهم حتى نهاية المطاف؟

 

الجواب عن هذا السؤال قد لا يكون سهلاً الآن، خصوصاً في ظل الانقسامات الداخلية الحادة حول احتمال التوجّه شرقاً، والذي تقع موسكو في أساسه. وليس خافياً انّ جزءاً من القوى الداخلية يرفض سلوك هذه الوجهة، إما لأسباب سياسية وثقافية، وإما لخوفه من ردّ الفعل الغربي عموماً والأميركي خصوصاً، بينما يعتبر البعض الآخر انّ من مصلحة لبنان تنويع الخيارات والانفتاح على الشرق، من دون أن يعني ذلك قطع الجسور مع الغرب، خصوصاً انّه لم يعد جائزاً الاستمرار في «الدلع» والتفريط بالفرص، وسط الازمة الاقتصادية القاسية.

 

وتفيد المؤشرات الأولية، أنّ هناك تجاوباً لدى القوى الاساسية حتى الآن، أقلّه في الظاهر، مع «المبادرة الروسية»، الاّ انّ الاختبار الحقيقي للنيات و»الرِكاب» سيحصل عند اقتراب لحظة حسم الخيار واتخاذ القرار الرسمي بتوقيع المشاريع الاقتصادية المقترحة او رفضها.

 

ووفق المعلومات، فإنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون و»التيار الوطني الحر» يرحبان بمبدأ التعاون مع موسكو في المجالات المطروحة، بل انّ رئيس التيار النائب جبران باسيل ذهب ابعد من ذلك خلال اجتماعه الاخير بوزير الخارجية سيرغي لافروف، وعرض عليه تعاوناً اكبر في قطاعات أخرى لا تقلّ حيوية وأهمية.