قبل ان يغادر موفد الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بيروت بساعات، شهد نموذجاً من المناكفات التي عززت قوله، إنّ الأزمة الحكومية في لبنان «تنبع من تناحر الزعماء اللبنانيين على السلطة»، وانّ من الواجب «تنحية خلافاتهم جانباً وتشكيل حكومة» أو «المخاطرة بانهيار مالي كامل والتعرّض لعقوبات». وعليه، هل بقي هناك ما يحول دون مزيد من العزلة الدولية المفروضة على لبنان؟
 
وكأنّه لم يكن كافياً ما سمعه بوريل اثناء جولته على اركان السلطة من شكاوى في ما بينهم، ومجموعة من السيناريوهات التي تكيل الاتهامات حول من يعرقل تأليف الحكومة، حتى اطلّ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، ليقدّم له نموذجاً حياً مما شهده الرجل في لقاءاته المقفلة. فهو كان في تلك الاثناء مجتمعاً مع ممثلين للهيئات المدنية والجمعيات التي يموّلها الاتحاد الأوروبي و»القوى التغييرية»، التي عبّرت عن رؤية مختلفة عن تلك التي سمعها في اليوم الأول.

 

وبمعزل عمّا شهدته محاضر جلسات بوريل مع أركان السلطة من رؤى متناقضة وقراءات لا تلتقي على قواسم مشتركة، لم يُفاجأ بأي معادلة او نظرية استمع اليها. فهو لم يأتِ من عالم آخر. فقد سبق له ان اطلع بأدق التفاصيل على مجموعة من التقارير التي دفعته الى هذه الزيارة منذ فترة طويلة، سبقت اعتكاف وزير الخارجية والمغتربين شربل وهبة. ولذلك، فليكن الجميع على يقين، انّ زيارته لم تكن ابنة ساعتها او مرتبطة بآخر السيناريوهات والمبادرات والصيغ الحكومية المطروحة، وما رافقها من عِقد وشروط تعجيزية، لا يمكن مقاربتها بسهولة، قبل ان تسقط واحدة تلو الأخرى.

 

وبوريل كان على ثقة بأنّه لن يسمع جديداً يثير الدهشة، فقد وصل الى بيروت بإقتناع مسبق بأنّ ما هو متبادل من طروحات سيقود في النتيجة - أياً كانت الفوارق في ما بينها - إلى ما يهدّد مصير المحاولات السابقة، ليضعها كلها في سلّة واحدة، الى درجة كان قد تردّد بضرورة القيام بهذه الزيارة، قبل ان يعتبرها واجباً ومهمّة لا بدّ من القيام بها، قبل اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الاوروبي في لوكسمبورغ، وليكون على بينة من آخر المواقف، في محاولة اخيرة لإيصال رسالة بالغة الدقّة الى اللبنانيين، حول ما يجب وما يمكن القيام به لملاقاة الجهد الاوروبي والدولي، المنصّب على إنقاذ لبنان وقيادته الى مرحلة التعافي، رغم الاعتراف المسبق بأنّ الطريق طويل وشاق، وانّ الانطلاقة الموعودة قد تأخّرت كثيراً، ولا بدّ من أثمان سيدفعها اللبنانيون لقاء فشل من أتوا بهم الى مواقع القرار.

 

على هذه الخلفيات، لا بدّ من ان يفهم المراقبون، انّ بوريل ومنذ ان أنهى لقاءه الاول مع رئيس الجمهورية ميشال عون، قرأ على الاعلاميين من على منصّة القصر الجمهوري بيانه التحذيري الاول مكتوباً بحبر قديم، يؤكّد أنّه لم يكن يتوقع ان يسمع ما يدفعه الى تعديله، قياساً الى ما سمعه قبل دقائق، وما يمكن ان يسمعه لاحقاً من أركان السلطة، رغم موزاييك المواقف الذي يوحي أن ليس من السهل تخفيف التشنج وتجنّب ما يعانيه اللبنانيون والمقيمون من وجوه الكارثة التي انقاد اليها لبنان، بإرادة قلة منهم ورغماً عن إرادة الاكثرية من مختلف المناطق والمذاهب.

 

وعليه، بات واضحاً انّ التحذيرات التي حملها بوريل، والتي عبّر عنها في اطلالتيه الاولى والاخيرة قبيل مغادرته لبنان، لم تلق آذاناً صاغية لدى من في يدهم الحل والربط. فعلى رغم ما حملته من إشارات خطيرة تدلّ الى مستقبل التطورات في البلاد، فقد بقي الجميع على مواقفه، قبل ان ينسف باسيل في اطلالته الطويلة ظهر الاحد، كل الجهود التي بُذلت ومعها كل المخارج المقترحة في شكل التشكيلة الحكومية ومضمونها، والمعادلات التي أرستها المبادرات الداخلية، رغم الرهانات الكبرى عليها، بعدما قال الجميع رأيهم فيها صدقاً او عكس ذلك في السرّ وفي العلن.

 

وبعيداً من كثير من التفاصيل التي يمكن التوقف عندها، ان جرى تشريح مضمون الإطلالة الباسيلية، فإنّ فيها ما يؤشر الى ما هو خطير وسلبي جداً. فالإشارة الى بعض العناوين العريضة لا يطمئن إلى مستقبل المساعي المبذولة للخروج من النفق المظلم. فإلى التي وجّهها الى العمق المسيحي، إجهاض لكثير مما بنيّت عليه تفاهمات وُضعت لتقاسم النفوذ والمواقع بين قوتين مسيحيتين، بعيداً من أجواء «المصالحة المسيحية» التي اتخذت عنواناً تضليلياً لها. وعبّرت عن النية في استعادة سيناريو الاستقطاب على الساحة المسيحية، بغية اعادة شدّ العصب الحزبي وإلغاء القوى الأخرى، التي يمكن ان تقوم من خارج هذه «الثنائية السلبية» الحادّة. وهي استراتيجية ناجحة استُخدمت في انتخابات 2018 ، وانتهت إلى إلغاء ومحاصرة القوى الوسطية وتحجيمها لمصلحة تركيبة انهارت، ليدفع كلفتها المسيحيون خصوصاً واللبنانيون عموماً.

 

وإن تطلع المراقبون الى مصير الأزمة الحكومية، فإنّ هذه الاطلالة أدّت الى نسف الجهود التي بُذلت من كل الاطراف، وعادت بها الى نقطة الصفر. وإن وضعت لائحة بالضحايا المتعددي الجنسية والوجوه والأحجام، فأنّها - وان انتهت الى ما أراده الرجل - ستشكّل إنهاء لما تبقّى من المبادرة الفرنسية التي كانت تترنح على قاعدة استحالة التوصل الى حكومة حيادية ومستقلة، تقود البلاد الى طريق التعافي والإصلاح والإنقاذ. وان تمّ النظر إليها على قاعدة توسيع التمثيل الكاثوليكي والدرزي، وحقهّما في التمثيل الوزاري في الحكومة التي اعتُمدت لرفع التشكيلة الحكومية المقترحة من 18 الى 24 وزيراً، فقد أنهتها. كما تحوّل توصيف باسيل لصيغة الـ (8+8+8) التي بُنيت الآمال عليها كمخرج، لتكون معادلة «كارثية» يشكّل الإصرار عليها «خيانة عظمى» للمناصفة بين المسيحيين والمسلمين. عدا عن كونها مسعى يقود الى المحظور الى طريق «المثالثة». وإن بنيت على قاعدة الثقة التي مُنحت لرئيس مجلس النواب لرعاية المخرج، مدعوماً من «حزب الله»، فقد انتهى «التكليف الملغوم» ممن لا يرتاح اليه مسبقاً ونال ضربة صاعقة لمجرد وضعه في موقع الوسيط «غير النزيه».

 

وفي مقابل هذه الملاحظات وأخرى لا يمكن تناولها في مقال، فقد جاءت الإطلالة بما يناقض كثيراً مما طال شرحه. فالتفويض المرفوض او التنازل عن صلاحيات رئيس الجمهورية الذي مُنح للوسطاء الفرنسيين ومن بعدهم لبري وما بينهما لمجموعة من الاصدقاء المشتركين، سلّمه باسيل طوعاً الى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله. وسواء سُمّي ذلك إحراجاً للحزب او إخراجاً للأزمة، فإنّ النتيجة الخطيرة التي يمكن ان يقود اليها، انّ التشكيلة الحكومية المقبلة، إن نجح «حزب الله» في توليفها، فإنّها لن تتلاقى ومطالب المجتمعين العربي والدولي، لمجرد «الرعاية». وعندها، لا يمكن التوقع سوى مزيد من الحصار والعزلة العربية والغربية على لبنان. فهل هذا ما أراده باسيل؟