ظنّ البعض أنّ مناخ الجوع والوجع والذلّ الذي سيبلغ مداه الأقصى، بدءاً من حزيران، سيفجِّر «انتفاضة 17 تشرين» أو «الثورة»، مجدداً، وتلقائياً. ولكن، تبيَّن أن لا «ثورة» في الأفق، ولا ثوار. وفي المقابل، تضحك منظومة السلطة «في عبِّها» بعدما حسمت المعركة لمصلحتها.

 

عندما انطلقت «الثورة» في 17 تشرين الأول 2019، كانت تتميّز بدفقٍ هائل من الدينامية على الأرض وبالعناوين الرفضية. وكان هذا الدفق الاستثنائي كفيلاً بإندفاع «الثورة» بكل شرائحها كنهرٍ جارف في المناطق كافة، ومن دون تحديد هدف واضح.

 

في تلك المرحلة، تعاون «الثوار» كتفاً على كتف، ولم يفكّروا في وجود اختلافات بينهم، أو خلافات. وعلى الأرض، تحرّكت 5 فئات:

1- هناك الشرائح الأقرب إلى تفكير قوى 14 آذار ونظرتها إلى الدولة ودور «حزب الله» وحياد لبنان، وهي تميل إلى تكريس تموضع لبنان منفتحاً على الغرب و»عرب الاعتدال».

2- هناك شرائح اليسار، المعتدل أو المتطرف. وفي السياسة، لها تصوُّر مغاير لموقع لبنان ودوره الإقليمي ونظامه السياسي والطائفي ولسلاح «الحزب».

3- هناك الشرائح «المدنية» و»العلمانية» التي تُصنّف نفسها في موقع مستقل سياسياً، وتركِّز اهتمامها خصوصاً على الإصلاح السياسي والإداري والاجتماعي، وبناء الدولة بعيداً من هيمنة الطائفية والفساد.

4- هناك القوى المحسوبة أساساً على أحزاب سياسية وتيارات وتنظيمات سياسية، وقد نزلت إلى الشارع ترفع شعار «كلن يعني كلن». وطبعاً، كل منها يستثني زعيمه والفريق الذي ينتمي إليه، من هذا الشعار.

5- هناك الذين يركبون قطار «الثورة» بشعارات «كيفما كانت» لأنّ لا هدف حقيقياً يسعون إليه. فما يهمُّهم هو الوصول إلى جنّة السلطة بعد سقوط المنظومة القديمة على طريقة «قُوم حتى إقْعُد مَطرحَك». وطموحُهم هو الدخول إلى الحكومة الجديدة أو إلى المجلس النيابي المنتظر بعد الانتخابات.

 

منذ الأيام الأولى، كان مطروحاً على «الثوار» أن يقرِّروا الهدف من «ثورتهم»، أي أن يتوافقوا على برنامج، ولو في الخطوط العريضة. وهذا البرنامج كان سيستدعي تشكيل ما يشبه القيادة لمواجهة فريق السلطة الذي ازداد تماسكاً في المواجهة، واستخدم كل أسلحته لضمان الاستمرار.


 

خاف «الثوار» من استحقاق التوافق على البرنامج والقيادة الموحّدة، واعتقدوا أنّ مجرد الجلوس إلى طاولة للتفاهم سيعرّضهم للاختلاف والانقسام والخسارة في المعركة. ولذلك، هم اعتمدوا الخطة الآتية: تستمر «الثورة» في اندفاعها، وتتجاوز كل التباينات التفصيلية بين أركانها وشرائحها. وبعد أن تنجح في إزاحة المنظومة السياسية يكون لديها الوقت الكافي للبحث بهدوء عن تصوُّر سياسي للبلد.

 

هذه الخطة وفَّرت النجاح لـ»الثورة» خلال الأشهر الأولى، على رغم كل محاولات القمع والخداع التي مارستها السلطة. لكن «الثورة» أصيبت بالشلل بعد تكليف الرئيس حسان دياب تشكيل حكومته وتضارب التصوُّرات للمرحلة، وهي ما زالت مشلولة حتى اليوم.

 

وثمة مَن يعتقد اليوم أنّ «الثورة» ماتت. وفي عبارة أكثر دقّة، «الثورة» لم يقتلها أحد، بل إنّها نَحرت نفسها بنفسها. وفيما أركانها ورموزها غارقون في منازعاتهم حول تشخيص الأزمة وطرق العلاج، تخرج منظومة السلطة من إرباكها وتزداد قوةً وثقةً في أنّها ستتمكن من حسم الجولات الأخيرة من الحرب.

 

حاول أركان «الثورة» خلق الذرائع لانكفائهم الذي لم يفهمه كثيرون. وفي مرحلة سابقة، استعملوا أحد تبريرين: الأول هو مَنْح حكومة دياب مهلة أشهرٍ لعلّها تفي بوعودها وتستجيب للمطالب. والثاني هو تَجنُّب النزول جماهيرياً إلى الشارع منعاً لتفاقم «كورونا».

 

لكن السبب الحقيقي لانكفاء هؤلاء أعمق من ذلك. إنّه الإرباك الذي يصيبهم والفشل والانقسامات ذات الطابع السياسي أو الاقتصادي أو الطائفي، والتباين في النظرة إلى لبنان وطبيعة موقعه ودوره. وبالتأكيد، المصالح والطموحات الشخصية التي تبقى الدافع الأساسي لالتحاق كثيرين بـ»الثورة».

 

لذلك، تبدو منظومة السلطة مرتاحة إلى «مستقبلها»، بعدما اطمأنت إلى سقوط «الثورة» أو «الانتفاضة». وفي عبارة أخرى، سدَّدت المنظومة ضربات قاسية إلى «الثورة» ومارست مع رموزها سبل الترغيب والترهيب والمخادعة. لكن «الثوار» في النهاية هم الذين انتحروا.

 

واليوم، يعاني «الثوار» من الشلل التام، بل إنّهم يتوارون خلف الأحداث، ولا مؤشرات إلى تحرُّكهم مجدداً، مع أنّ اللحظة التي وصل إليها البلد يُفترض أن تتسبَّب بانفجار سياسي واجتماعي عفوي يمكن أن يطيح كل ما هو قائم.

 

فوق ذلك، في هذا المناخ، إذا جرت الانتخابات النيابية فلن يكون لجماعة «الثورة» تأثيرٌ يُذكَر. أولاً لأنّ منظومة السلطة ستَرسم قانون الانتخاب ومجريات العملية كما تريد. وثانياً لأنّ «الثوار» أنفسهم منقسمون ولا قدرة لهم على تحقيق الانتصارات في الدوائر الانتخابية.

 

هذه الوقائع والتوقّعات تدفع إلى التساؤل: إذاً، ما كانت هذه «الثورة» التي أشعلها اعتراض على ضريبة 6 سنتات على «الواتساب»، ولا يشعلها اعتراض على نهب المليارات من مال الدولة والناس والجوع والوجع والذلّ؟

 

وهل صحيح أنّ ما جرى كان مجرَّد ترجمة لتعليمات من الخارج، أُريدَ منها تحقيق أهداف معينة وقد فشلت أو جرى استنفادُها؟ أو أنّ القوى الخارجية قد تراجعت عن خطتها، فسقطت «الثورة» وعادت اللعبة إلى ما كانت عليه قبل 17 تشرين الأول 2019؟