قدّمت تطورات الأسابيع والأيام والساعات القليلة الماضية صورة عن «جمهورية مفكّكة» تمشي إدارتها على قاعدة «كل مين لسانو إلو»، ضاعت فيها المسؤوليات من اعلى الهرم الى ادناه، وبات مطلوباً من اللبنانيين ان يفكّكوا رموزاً. وإن استعانوا بقانون الحق في الوصول الى المعلومات لن يجدوا ضالتهم في أي دائرة. وإن أداروا الأذن للمسؤولين وجدوا انّ كلاً منهم في وادٍ. فكيف تمّ التوصل الى هذه المعادلة؟

 

كما في التطورات المحيطة باستحقاق تشكيل الحكومة المنتظرة، كذلك في الإدارة من أعلى الهرم الحكومي الى كل وزارة على حدة، ومن رأس الهرم الإداري فيها الى ادناه، كلٌ يعمل على ليلاه، يصرّح وينصح ويحذّر ويدعو بمعزل عمّا تقول به الاصول وفق التسلسل الإداري، اياً كان هامش الاستقلالية الذي تتمتع به بعض الإدارات والمصالح المستقلة والمؤسسات العامة وفق أنظمتها الخاصة.

 

ومرد ذلك، باعتراف مختلف الاطراف المعنية بهذه المعادلة الغريبة ـ العجيبة، الى ما بلغته نسبة فقدان الثقة ومعها الشفافية المطلوبة، في التعاطي مع هموم اللبنانيين ومصالحهم اليومية من أعلاها وأغلاها أهمية وأخطرها شأناً، الى ادنى ما هو مطلوب من الخدمات في القرن 21 وما مننوا اللبنانيين به من تطور في الإدارة وسعي إلى «بوابة إلكترونية موحّدة» للإدارة الرسمية، لتسهيل المعاملات على المواطنين بأقل كلفة ووقت ممكنين. ولا يُخفى على العاملين في هذه البرامج المتطورة ما أُنفق عليها من مئات الملايين من الدولارات التي رُصدت لها، سواء عن طريق هبات او قروض، وما سُخّرت لها من خبرات.

 

وإن كان النقاش في مثل هذه الحالات ما زال يدور في كواليس الإدارة وهيئات الرقابة والمؤسسات القضائية، كمثل هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل ومجلس شورى الدولة، فإنّها بقيت خارج اهتمامات المسؤولين الكبار اليومية. فالحكومة تعيش في فترة تصريف الأعمال بحدّها الأدنى، ولا تعترف بوجود الشلل في معظم القطاعات الحيوية، في وقت تتخبّط المراجع الرسمية الاخرى في البحث عن حلول متفرقة، خارج ما يقول به القانون والدستور ومبدأ الفصل بين السلطات.

 

وإن اعتبر بعضهم انّ هذه المعادلة تشكّل محاولة للإيحاء بأنّ التعثر في تشكيل الحكومة هو وحده السبب، أو انّ الأزمة النقدية والاقتصادية التي تعانيها البلاد هي التي قادت وحدها الى مثل هذه الحال المزرية. لكن الواقع يشير الى انّ في العقول والاذهان منطقاً لم يقارب عمل المؤسسات الخدماتية والإدارية القائمة كما يجب ان تكون. فهي بُنيت في معظمها ومنذ تأسيس او انطلاقة البعض منها، على اساس الانتماء الى هذه الطائفة او تلك، كما هي من حصة هذا الفريق او ذاك، الى درجة تمّ تطييف الإدارة وتصنيفها المسبق، ولم يكن ينقصها سوى ما ادّت اليه الأزمات الاقتصادية والامنية والصحية المستجدة منذ عامين، من تداعيات خطيرة فكّكتها بطريقة لم يكن يتصورها احد على الإطلاق.

 

ولذلك، لم يكن مستغرباً ان تنعكس كل هذه المعطيات فشلاً في إدارة المؤسسات العامة والهيئات المستقلة على أنواعها في توقيت واحد. وكأنّ الأمر مقصود، وهناك من خطّط لبلوغ هذه المرحلة بكل اتقان، من اجل تغيير هوية لبنان ودوره في المنطقة والعالم. وعليه، انقادت اليها البلاد طوعاً من دون وجود اي حسيب او رقيب، ولذلك، شلّت بعض القطاعات والمؤسسات الى درجة فقدان خدماتها الحيوية، كما في قطاع الطاقة والكهرباء والمياه والمشتقات النفطية على أنواعها والأدوية والمستلزمات الطبية التي تفاقمت بعد ازمة الطحين التي عبرت مؤقتاً. وإن بقي بعض المؤسسات عاملاً، فقد تحولت اوكار فساد ومحسوبيات، الى درجة شهدت عليها عشرات الإخبارات امام القضاء المستعجل والدعوات المنتظمة الى مكافحة الفساد، بعد فتح عشرات الملفات التي توحي بتناميه. كما عند الدعوة الى التدقيق الجنائي الذي يبدو انّه انطلق من زاوية «انتقائية» و»إختيارية» بلا اجماع على اهمية الخطوة لتطاول مختلف القطاعات.

 

ومن دون كثير مما قد يُقال في معرض هذا الطرح السلبي، فقد انسحبت الضبابية المعتمدة في عملية تشكيل الحكومة الجارية على صفيح ساخن من المصالح المتضاربة والتسريبات والاتهامات المتبادلة على بقية وجوه الحياة اليومية ومصالح الناس الحيوية، الى درجة افقدت اللبنانيين ثقتهم بغدهم وليس بمستقبلهم. والامثلة على ذلك لا تُحصى ولا تُعدّ. ففي الوقت الذي حذّر فيه المدير العام لهيئة «اوجيرو» عماد كريدية من انّ الارتفاع المستمر بساعات التقنين الكهربائي سيؤدي الى «انقطاع الانترنت»، طمأن وزير الإتصالات طلال حواط، بعد ساعات قليلة، الى «أنّ لا ازمة في قطاع الإتصالات ولا انقطاع في خدماته»، طالما انّ وزير الطاقة يؤمّن الفيول المطلوب، ومصرف لبنان يؤمّن الإعتمادات، متحدثاً عن وضع مولّدات جديدة في الخدمة.

 

وفي الوقت الذي أكّدت المدير العام للنفط اورور فغالي، انّ المازوت متوافر للمولدات الكهربائية بملايين الليترات، يتحدث أصحابها عن شرائها من السوق السوداء، ويهدّدون بالتقنين على وقع فاتورة تعجز عنها البيوتات، هذا عدا عن الجدل القائم حول طريقة ترشيد الدعم، في وقت تزداد اعمال التهريب التي طالت نهباً كاملاً لقطاعات مختلفة في اتجاه سوريا ودول اخرى في الشرق والغرب.

 

ليس في ما سبق من عرض، سوى غيض من فيض لتجارب مماثلة، وإشارة كافية للتدليل صراحة الى ما بلغه قصور المسؤولين عن القيام بأقل واجباتهم، والى الإشارة التي لا يمكن تجاهل الحديث عن شل مؤسسات كبرى تعتمد عليها الحياة القانونية والدستورية والقضائية. فالمجلس الدستوري دخل مرحلة الشلل التام، ومجلس القضاء الاعلى دخل في حالة من «الكوما»، وافتقدت المؤسسات الرسمية والوزارات الأوراق والحبر والمستلزمات المكتبية والمستندات الرسمية والإيصالات الخاصة بفوترة الهاتف وغيرها.

 

وعلى الرغم من كل ذلك، لا يخشى بعض المسؤولين ممن يمسكون بمخارج الحلول للأزمة الحكومية والادارية، المجاهرة بأنّهم يسعون في ظل هذه الظروف الصعبة، الى الحفاظ على مصالح طائفتهم ومذهبهم، تواقين إلى انتصارات وهمية على وقع الخلاف على صلاحيات هذه السلطة أو تلك.

 

على هذه الخلفيات لم يعد الحديث عن «جمهورية مفكّكة» خروجاً عن الواقع، ولا عن تضارب في المواقف والصلاحيات من ضمن الإدارة الواحدة، ليتحول المواطن ضحية هذا الفلتان، لا يعرف من يصدّق من كلام رئيس او مرؤوس. فالحقيقة الثابتة انّه يتوقع الاسوأ في كل الحالات، ومن يصوّب على هذا الجانب السلبي سيحظى بالصدقية والتمايز عن الحالمين أو الذين يعيشون في عالمهم الخاص، من دون ان يشاركوا اللبنانيين همومهم ومصالحهم.