«ثوار مع البطل اللي جابو القدر

رفعنا راسنا لفوق لما ظهر

طلنا السما وياه ودسنا الخطر

والعزم ثابت والعزيمة حديد

وطول ما أيد شعب العرب بالايد

الثورة قايمة والكفاح دوار»

(عبد الفتاح مصطفى)

كنت في طفولتي، قبَيل هزيمة حزيران 1967، أعتقد أن «أم كلثوم» هي الأمة العربية التي يتكلم عنها كل خطباء المنابر، أصحاب الأصوات الصادحة. وقد ازداد اقتناعي بعد أن اشترى والدي أحد أوائل أجهزة التلفزيون في منطقة «باب التبانة». كنا نحن والأقارب والجيران نتكوّم في غرفة صغيرة أمام الجهاز العجيب، بعد جهد مضن لتصويب الهوائي على سطح البناء في اتجاه القاهرة، لنجلس مسحورين «بالست» وهي تشير بيدها الى «البطل اللي جابو القدر» أي جمال عبد الناصر الجالس في مقدمة الحضور مع أعضاء مجلس قيادة الثورة. كيف لا، فالناس قد أخذتها نشوة الانتصارات الوهمية التي نسجتها الخطابات النارية لمنظّري الحكام الملهمين، أشباه الأنبياء.

 

ما أجمل الذكريات التي «تعبر أفق الخيال بارقاً يلمع في جنح الليالي، تنبّه القلب من غفوته وتجلو ستر أيام الخوالي، فكيف أنساها وقلبي، لم يزل يسكن جنبي...». فالذاكرة شيء عظيم للتعلم من التجربة وأخذ العبر، والنسيان نعمة تساعد على الشفاء، لكنّ التجاهل يديم المرض ويترك البديهيات للتحكم بالأمور بدل التفكير بالحلول خارج نطاق البديهي. وحل الأمر يبدأ بالسؤال عن صحّة ما هو بديهي ومساءلته!

 

عشيّة هزيمة 67 ما كان بديهياً هو الانتصار على «العصابات الصهيونية». كان أمراً محسوماً بالنسبة الى الشعوب العربية، ولم يكن هذا الانتصار موضع شك لدى أي مواطن إلّا من سَوّلت له نفسه أي يسأل كيف؟ وكان يصنف في خانة «الخونة عملاء الصهيونية والاستعمار».

 

لقد نام الشعب العربي على أحلام دونكيشوتية أبطالها صواريخ «قديمة» هي «الظافر» و»القاهر» وقائد أسطوري «قديم» يغرق الأعداء في البحر.

 

لكن الواقع الذي تم تجاهله هو أنّ نتيجة النزاع كانت محسومة بناءً على المعطيات المنطقية لموازين القوى التي كانت قائمة عشية الحرب. لكن لم يكن حجم الكارثة ليخطر على بال حتى أكثر الناس تشاؤماً من الجهة العربية، وتخطّت النجاح وسهولة تحقيقه أحلام أكثر الصهاينة تفاؤلاً.

 

لقد كانت إحدى أهم نتائج نكبة 1948 على الصعيد العربي هي بروز الديكتاتوريات العسكرية المغلّفة بالشعارات الوطنية والقومية، وبطبيعة الحال كانت قضية فلسطين اللباس الأساسي الذي تقمّصته هذه الأنظمة وابتَزّت المواطنين التوّاقين الى إعادة الاعتبار بعد الهزيمة.

 

وهكذا غرقت معظم شعوب الدول العربية في دوامة حكم العسكر والشعارات التضليلية، فغابت مشاركة الناس في الحكم وأصبح تداول السلطة إمّا في عالم النسيان، أو رهينة لوحشية الساعين الجدد الى السلطة من خلال انقلاب عسكري يسحل السلف من بعده أو يعدمه أو يسجنه. وفي طبيعة الحال، غاب الإنماء وتبخّرت الحقوق الأساسية للإنسان في ظل شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة».

 

في الوقت نفسه، كانت دولة العدو تبني ديموقراطيتها العنصرية والأهم سلطة القانون الذي يعلو فوق الرئيس، وكان تداول السلطات محترماً، وحتى بن غوريون مؤسس الدولة، وهو من كان يعتبره كثير من اليهود نبياً جديداً، سلّم السلطات الى خليفته موشيه شاريت، وانكفأ الى الإدارة خلف الكواليس، لكن عينه كانت ساهرة على إنجازاته، ليعود لاحقاً لاستكمال ما سعى إليه. إندفعت هذه الدولة في عملية إنماء متعددة المستويات مستفيدة من دعم متعدد الجنسيات كان عماده الشتات اليهودي في العالم.

 

قد يكون من دواعي الاختصار حصر المقارنة بين الواقعين العربي من جهة والإسرائيلي من جهة أخرى عشيّة حرب حزيران 1967، فمجالات المقارنة أوسع بكثير، ولكن المؤكد هو أنّ الشعوب العربية لم تغتنم الفرصة التي أتيحت لها للتغيير بعد الهزيمة، فسقطت استقالة الرئيس جمال عبد الناصر تحت وطأة المطالبة الشعبوية بعودة «القائد». ودخلت سوريا في حملة تخوين وحشية أدت الى تصفيات ومؤامرات متبادلة انتهت الى استمرار النمط الديكتاتوري من خلال ما سمّي الحركة التصحيحية.

 

وبدل الاقتداء والاستفادة من التجربة الديموقراطية الوحيدة بين الدول العربية، فقد جرت عملية تدمير عشوائي لهذه التجربة من خلال إجبار لبنان على قبول التخلي عن سيادته منذ اتفاقية القاهرة، والتي أدت الى الدخول في الحرب الأهلية ولم تنته بمحاولة تطويع هذه التجربة لتصبح مشابهة للأنظمة العربية السائدة.

 

والآن، وبعد 54 عاماً من الهزيمة، تبدو الأمور أكثر مأسوية، فانعدام التوازن في النمو الاقتصادي والعلمي والإنساني زاد خطورة بين إسرائيل وبين العرب، وخصوصاً من هم في تماس مباشر مع العدو. ودخلت إيران و»داعش» والتطرف الإسلامي على الخط، ودُمِّر العراق وسوريا، ومُحيَت معالم التعدد والحرية في لبنان المهدد جدياً بالتفكك، وحلّ صاروخ «الرعد» وأخوته مكان «الظافر» و»القاهر»، وما زال القادة المَيامين يخرجون من الأقبية بعد كل حفلة دمار ليرددوا شعارات لم تتغير، رغم تغير الأسماء.

 

يقول أينشتاين «إنه من علامات الجنون أن نقوم بالشيء ذاته وننتظر نتائج مغايرة». ويقول مثلنا الشعبي «من جرّب المُجرَّب كان عقله مُخرَّب»، يعني أن القضية لا تحتاج الى رأي أينشتاين! فمتى يتحرر عالمنا من الجنون، ومتى تتحرر فلسطين من البديهيات لنفكر في حلول خارج ما تمت تجربته حتى الآن؟