«غَدٌ بظَهرالغيب واليوم لي
وكم يَخيب الظنّ في المُقبل
ولستُ بالغافل حتى أرى
جمال دُنياي ولا أجتَلي»

(رباعيات الخيام، أحمد رامي)


علينا أن نخرج من قمقم البديهي حتى نتمكن من فهم الأمور، من دون التمترس وراء اقتناعات مسبقة راسخة. الإقتناعات المسبقة، حتى وإن كانت ذات طابع مبدئي أو أخلاقي، تفقد القدرة على تحليل الأمور في سبيل الفهم، والفهم هو السبيل الالزامي لاستكشاف الحلول. من هنا، ومن دون اقتناعات مسبقة، وبناءً على معطيات لن أسهِبَ في شرح مصادرها، ولا تدخل أبداً في معرض الاتهام لأيّ كان، سأعرضُ هذه الأفكار في ظل الانغلاق الكامل اليوم في رؤيا الحلول، في بلدٍ ما زال يتدحرج إلى الطبقات الدنيا من الجحيم، من دون أن يعلم المُدحرجون إلى أي طبقة سيصلون!

 

ما هو سر الصبر المريب عند فريق العهد على تأليف الحكومة، رغم تغيير الرؤساء المكلفين؟ مع العلم أنّ المنطق يقول، عند ذوي الألباب، بتأليف حكومة بلا تردد أو شروط يعلم العهد باستحالة قبولها؟ والسؤال الذي يطرح نفسه هو على أيّ جمهورية سيحكم العهد في حال استمر التدهور؟
السؤال الثاني: ما سر صبر البطريركية المارونية على العهد، وهو سائر قُدماً الى تدمير إنجاز المثلث الرحمات البطريرك الحويك بلبنان الكبير؟
والسؤال الثالث هو كيف ساهمت «القوات اللبنانية» في استحالة إنشاء حكومة من دون ثلث معطّل، برفضها التسمية للتكليف أولاً، ورفضها المشاركة في الحكومة، تاركة للعهد فرصة التحكم بتأليفها؟

 

بما أنّ الكلام هنا هو من دون أفكار مسبقة، فقد لاحظتُ من خلال معطيات منطقية، أن القوى المسيحية في لبنان عموماً، أصبحت في حال مراجعة جدية لواقع البلد التعددي. كان ذلك منذ سنة 2012، وبالضبط بُعَيد ظهور تنظيم «النصرة» في سوريا واحتلاله صدارة الحدث هناك. ما يعني أنّ البديل السني للحكم العلوي في سوريا كان سيكون أسوأ من الشر الذي نعرفه. وهنا أتذكر قول أحد الزملاء النواب من حزب «القوات اللبنانية» بُعَيد ثورة الأرز، وبينما كنُّا منهمكين في طرح مسودة مبادئ وطنية تتجاوز الحالة الطائفية، فبادرني بسؤال محرج حقاً: «أنتم الآن، كسُنّة، معادون لبشار الأسد لكونه علوياً، لكن كيف سيكون الموقف إن أتى الحكم هناك لسنّي؟ ألن تطالبوا بالوحدة السورية مثلما فعلتم في الماضي؟». ولا أظن أنّ جوابي عن «لبنان أولاً» كان ليقنع صديقي وزميلي حتى يومها، أي في فورة الاستقلال الثاني. لا حاجة للإضافة أن ظهور «داعش» و»الانتصارات» الساحقة التي حققها التنظيم في بدايته التدميرية، ومُزايدته في التوحّش الأصولي حتى على «النصرة، جعلت القضية أكثر خطورة على نظرة المسيحيين إلى إمكانية التعايش، حتى في ظل نظام ودستور يضمن الحقوق بالاختلاف. من هنا، لم يكن قانون الفصل الطائفي الانتخابي، الذي اعتبر انتصاراً للبعض، بالنتائج أو المغازي، إلا نتيجة لهذه الاقتناعات المبنية على استنتاجات منطقية من الحدث السوري المرتبط بالعراقي. وهنا أذكر أنني دُعيتُ الى اجتماع مع أصدقاء من حزب «القوات» للبحث في طبيعة التحالفات في الانتخابات، وأعلنت يومها شَجبي واستنكاري لقانون الفصل الطائفي الانتخابي. وكان جواب الأصدقاء أنّ علينا أن نعترف بأننا شعوب مختلفة، وثقافات مختلفة تعيش بحُكم الواقع لا الإقتناع في بقعة جغرافية واحدة وضيقة، بمعنى أنّ القانون هو انعكاس لهذا الواقع!

 

في حوار صريح مع صديق مطّلع وفاعل، أكد أن الحل الوحيد للبنان هو أن يكون لكل طائفة خيارها السياسي الاجتماعي والاقتصادي... وهذا لا يمكن تحقيقه في ظل انفصام الخيارات عند القبائل الطائفية إلا من خلال التوبة والعودة عن التعددية، والتوقف عن التغني بها، وتَجنّب الإشادة بدعوة البابا القديس بِكَون لبنان رسالة. وما الرسائل غير البريئة، التي تظهر في مقاطع، تبدو موضوعية، عن «الخطأ الشائع» على شاشة MTV بشكل متكرر، وعن مواضيع مُجتزأة وناقصة، إلّا شكلاً من أشكال الترويج لقرار الانفصال، الذي يبدو أنه سيكون النتيجة الحتمية عند الارتطام بقعر جهنم. من هنا، فإنّ التبشير بجهنم لم يكن من قبيل التهويل، بل هو من قبيل السعي الدؤوب نحو بلوغ هذا القعر. لست أدري اليوم إن كان هذا الأمر هو من الأسباب التي أدت إلى اتفاق «أوعا خَيّك»، لكنّ روحية هذا التوجه المنطقي ظهرت لاحقاً عندما تحاشى الجميع هجاء «حزب الله» خلال أزمة عرسال و»فجر الجرود» والباصات المبرّدة. لا بل انّ الواقعية دفعت بعض من كانوا مُعادين للحزب، الى تحاشي النقار معه، وإن لفترة محدودة.


في مؤشّر آخر، أخبرني أحد المطلعين، وعلى ذمّته، أنه قبل انتخاب رئيس الجمهورية الحالي، وفي فترة البحث عن الخروج من الفراغ الرئاسي الذي فرضته شهوة العماد عون للموقع، انعقدت، كما هو معروف، بضعة اجتماعات بين غبطة البطريرك والزعماء الموارنة الأربعة المبشّرين برئاسة الجمهورية. النتيجة المعروفة سلفاً كانت عدم اعتراف أي منهم بأسبقية واحد منهم إلى الموقع على الآخر. يقول المُطّلع نفسه اّن فكرة استمرار المناصفة طرحت للنقاش، وكان الانطباع أنّ هذه المناصفة، التي فرضها «اتفاق الطائف»، لا يمكن التعويل عليها إلى ما لا نهاية. وبالتالي، فإنّ اطمئنان المسيحيين إلى حصتهم في النظام ستكون عرضة للتقلبات والمزاجات، وإن بقيت، ستكون مُرتهنة للأكثرية. هذه الأكثرية منقسمة بين السنة والشيعة اليوم، لكن، من يضمن المستقبل. على كل الأحوال، فإن الكلام الذي سمعته تكراراً، وبالأخص من أتباع العهد، هو أنه ما دَخلُ المسيحيين لِتُقحموهم في نزاع المسلمين في ما بينهم؟

 

ماذا يعني كل ذلك الآن؟ ما يعنيه هو أنّ استعصاء الحلول ليس مجرد ضرب من العناد لمزيد من السلطة، فلا أحد، مهما نَخر عقله جنون العظمة، يمكن أن يقبل الحكم على أطلال فقط. لكنّ الحديث المتكرر الذي يتردد بين البعض هو على شاكلة «لمَ علينا أن نصرف الضرائب التي ندفعها عمّن لا يدفع ضريبة؟»، و»لم نصرف الكهرباء على من لا يدفع التعرفة؟»، و»لم نَبني مدارس حكومية في حين أننا ندرس في مدارس خاصة؟»، و»لم نرصف الطرقات للدواعش؟»، و»لم نعيش مع دواعش مهما تَمَدنوا أو تعلموا؟»... سلسلة لا تنتهي من مؤشرات انفراط عقد اجتماعي سياسي كان صامداً، وإن كان أعرجاً وأعوراً ومشوهاً، في أيام البحبوحة الريعية الزائفة. اليوم عاد هذا العقد «العبقري المميز» ليصبح موضع الهجاء في أيام جهنم. صحيح أنّ القلّة تأتي بالنقار؟ لكنني اليوم أرى مؤشرات العودة إلى لبنان الصغير واقعاً، ليس فقط عرضياً أو مرضياً، بل هو مَدار سَعيٍ جاد، كحلّ لفشلنا في تحويل بلد الطوائف بلد المواطنين.