لم تكن هذه الأمور مطلوبة لذاتها، وإنما كانت الوسيلة الأنجع لبناء دولة حديثة متحرّرة من قيود الطائفيّة المدمّرة والحزبيّة الضيّقة والهويات القاتلة. دولةٌ قادرة على وضع القوانين موضعَ التنفيذ، يحكمها عقد إجتماعيٌ وطني جامع، يُخلص لبنان من طريق الجلجلة، ويفتح باب الرجاء. حيث يكون لبنان وطنًا لا شريك له في الولاء والانتماء، وتكون مصلحة لبنان هي المصلحة العليا.
 

النظام يحكم الكون، وليست الظواهر الطبيعيّة والمظاهر الإجتماعيّة التي نراها الا تمظهرًا وتجليًّا لهذا النظام. وحاجة الإنسان للتنظيم حاجةٌ فطريّة تبرز في النظام الذي يضعه الأطفال لأنفسهم حين يمارسون لعبةً معيّنة، ولا تنتهي بالنظام السياسي، وهو الأهم والأكثر حساسيةً بين الأنظمة الوضعيّة.

 

 

   الإنتخابات هي مشاركة الفرد في صنع النظام، وضمانة لمشروعية الانتخاب، وتفقد معناها إذا غُيِّب التنافس. هذه المشاركة تُشبع لدى الإنسان رغبة من أخطر الرغبات؛ الحكم والسيطرة. فيشعر المنتخِب في البلاد الديموقراطيّة بأنّه شريك حقيقي وأساسي في صنع القرار، عبر إنتخابه لمن يراه مناسبًا. وحين يدرك كل مواطن أنّه ممثَلٌ في السلطة، فإنّ حالة من الرضى العام تسود. في المقابل، حيث الديموقراطية حلمٌ يُعاقب عليه القانون، تُكبت رغبة الفرد في الحكم والسيطرة حين يرى أنّ مشاركته في الإنتخابات لن تغيّر في النتيجة ولو بفارق صوتٍ واحدٍ هو صوتُه. إنّ هذا الكبت لن يموت، كما يقول فرويد، وإنما سيظهر بصورٍ خادعة تسبب الأذى له وللمجتمع، فنراه اقل تسامحًا وأقرب الى التشدد منه الى اللين. لتشكّل "عودة المكبوت" هذه بيئة حاضنةً لكل أشكال التطرف وتخريب الإنتظام العام.

 

 

   إنّ افاهيمَ الحريّة والمواطنة وغيرها، لا تحتمل التأويل و"الحيل الشرعية"، فهي مُحكمة بيّنة، ظاهرة لا باطن لها، ولم يُجعل لها عِوَجًا، فإمّا ان تكون مواطنًا وإمّا أن لا تكون. ومنطق الـ"منزلة بين منزلتين" منطقٌ مدمّرٌ إذا أُسقط على مثل هذه الأفاهيم.

 

 

   لا وجود لشعبٍ "يُغلبُ على أمرهِ"، هكذا بصيغة المضارع المجهول، حيث يكون الشعب نائب فاعل، والفاعل ضمير مستتر تقديره "طاغية"، فالشعب هو الفاعل، وهو المفعول به أيضًا. بعبارةٍ أخرى؛ الشعب هو فاعلٌ يقعُ عليه فعلُه. يقول كارل ماركس "أن الفقر لا يصنع الثورة، وإنّما وعي الفقر من يصنعها". فالفقر بذاته غير مؤهّل لذلك، فضلًا عن كونه مسبّبًا للركود وهدر الطاقات في بعض المجتمعات.

 

 

  منذ عهد "الوصاية" السوريّة على لبنان، تقاسمت المسؤوليّة منظوماتٌ عدّة قادت قطار البلد الى الهاوية تعاقبًا، بعد أن ملأت خزّان الوقود بليترات الفساد والنهب الممنهج بحق لبنان الدولة والنظام. وبعد عقودٍ وصلت الأمور فيها الى الإهتراء والتآكل والخراب بلا احتراب، وعى الناس حقيقةَ أنّهم استُخدِموا وقودًا لمحرّكات سلطاتٍ تحطم البلاد رغبة في البقاء ولو فوق الحطام. ثم جاءت خطوة "السَنْتَاتِ الستّة" على الواتس آب لتقصم ظهر البعير وتشعل فتيل تراكمات السنوات العجاف، التي تمظهرت بأشكال متعدّدة، كالإنقسام الأفقي الذي رافق "الإتّفاق الرباعي" ثم الإنقسام العمودي بين 8 و 14، فكانت ثورة اللبنانيين في 17 تشرين التي كشفت الغمام عن شمس الأمل بوضع حدٍّ للعبث المستفحل في البلاد، معيدين الى أذهان العالم فرادة لبنان وتميّزه حتى في ثورته.

 

 

      رفعت ثورة 17 تشرين شعار العدالة والمواطنة والخروج من ذهنيّة القطيع والمزرعة، وطالبت بنظام الإعمار والبناء كبديلٍ عن نظام التخريب ووُرَش الهدم،عبر إنتخابات نيابية مبكرة تعيد تشكيل السلطة القائمة الفاقدة للشرعية الشعبية، وحكومة اختصاصيين تضعُ لبنان في مداره الطبيعي، وترفع منسوب "الدوبامين" عند اللبنانيين.

 

 

لم تكن هذه الأمور مطلوبة لذاتها، وإنما كانت الوسيلة الأنجع لبناء دولة حديثة متحرّرة من قيود الطائفيّة المدمّرة والحزبيّة الضيّقة و"الهويات القاتلة". دولةٌ قادرة على وضع القوانين موضعَ التنفيذ، يحكمها عقد إجتماعيٌ وطني جامع، يُخلص لبنان من طريق الجلجلة، ويفتح باب الرجاء. حيث يكون لبنان وطنًا لا شريك له في الولاء والانتماء، وتكون مصلحة لبنان هي المصلحة العليا.

 

 

  نجيب علي العطّار