ليس صحيحاً القول انّ ما انتهت إليه جلسة مناقشة رسالة رئيس الجمهورية قد اعادت الامور الى نقطة الصفر. فلم يكن ثابتاً من قبل انّ الجو كان ايجابياً، وكل المحاولات السابقة لم تنتهِ الى ما يريده سعاة تشكيل الحكومة. وعليه، لا بدّ من إلقاء الضوء على ما تغيّر في هذه الجلسة والظروف التي دفعت بالرئيس المكلّف سعد الحريري الى إلقاء كلمته «الشرسة» والنتائج المترتبة عليها؟

 

منذ تكليفه مهمة تشكيل الحكومة العتيدة أواخر تشرين الأول العام الماضي، ليست المرة الاولى التي يُجري فيها الحريري الجردة الخاصة بعملية التأليف وشكل ومضمون علاقاته برئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر». ففي 14 شباط الماضي، ومحطات مختلفة تسرّب البعض منها، وكُشف صراحة عن البعض الآخر بالوثائق، بما فيها من جداول ملونة واخرى بالأسود والأبيض.

 

والجديد الذي أدخله الحريري الى جردته الشاملة في مداخلته السبت الماضي، بالإضافة الى ما استُجد من أحداث ومواقف في الفترة الاخيرة، تلك التي رافقت اللقاءات الـ 18 التي عقدها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون. كما عاد الى الوراء اكثر بكثير، لتشمل مداخلته ما عبّر عنه من معاناة منذ العام 2009 ، مروراً بفترة الشغور الرئاسي التي امتدت 29 شهراً. وبعدما قدّم لها جميعها، لفت الى محطة ولادة التسوية السياسية التي عُقدت عام 2016، وجاءت بعون رئيساً للجمهورية الى قصر بعبدا وإعادته الى السرايا لمدة لم تتجاوز نصف الولاية الرئاسية، كاشفاً عن كثير مما بقي موضع جدل على مدى الأشهر الأخيرة نتيجة ما نُشر وسُرّب من روايات ومحاضر جلسات متناقضة.

 

فقد كان واضحاً انّ الحريري لم يأخذ في الاعتبار ما رافق جلسة السبت من تحضيرات، سهر رئيس مجلس النواب نبيه بري على ترتيب ما أراده منها وللخروج منها، بأقل الخسائر الممكنة على المتنازعين والبلد. فقد لوحظ انّ كلمة الحريري المكتوبة قد صيغت قبل ان ينشط بري على جبهة بعبدا ـ ميرنا الشالوحي من جهة و»بيت الوسط» من جهة أخرى، تحوّطاً لما يمكن ان تقود اليه الرسالة الرئاسية. ولم يعدّل الحريري فيها اي حرف، عقب الكلمة التي ألقاها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، متجاهلاً التفسيرات التي قدّمها لمضمون الرسالة وأهدافها. فهو كان عارفاً انّ ما جاء فيها لا يتطابق وما هو معلن من أهداف ونيات، للتخفيف من حدّتها التي عبّرت عنها المحاولات الفاشلة التي قام بها أكثر من طرف ومسؤول لترتيب العلاقة بينه وبين باسيل. ولذلك، فقد اصرّ الحريري على إجراء قراءة للنص بما جاء فيه، متوسعاً في محاكمة للنيات ومضمونها، معطوفة على ما جاء في رسالة عون المماثلة الى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قبل أيام عدة، فشملهما معاً.


 

ويقول العارفون، انّ الحريري بقي مصرّاً على مضمون كلمته وكما أُعدت قبل ايام من دون اي تعديل فيها، لمعرفته بموازين القوى داخل الجلسة. فهو يعرف سلفاً مصيرها بالمنطقين الدستوري والسياسي، بعدما عبّر اكثر من طرف لاستحالة اعادة مجلس النواب النظر في ما انتهت اليه الاستشارات النيابية الملزمة، عدا عن التضامن الذي عبّر عنه بري وقوى أخرى، من بينها زعيم «الحزب التقدمي الاشتراكي» وليد جنبلاط وكتلة «الحزب السوري القومي الإجتماعي» وبقية الأصوات التي جمعها عندما نال اكثرية «عادية» عند تكليفه مهمة التأليف، من دون ان يرصد اي تعديل على موقف «القوات اللبنانية» التي ما زالت على موقفها المناهض للتيارين الأزرق والبرتقالي، وتحتفظ بموقعها الوسطي، والذي يُحتسب لمصلحته في النتيجة، في ضوء تنسيقها غير المعلن عنه مع بري.

 

وتقول مراجع رافقت التحضيرات التي جاءت بالحريري الى جلسة السبت، إنّه لم يعط اي اهمية لمداخلة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل في تفسيره للرسالة الرئاسية، وخصوصاً عندما نفى النية بالعمل لسحب التكليف منه، بعد الحديث عن «عجزه» عن مهمّة التأليف في اكثر من مكان، وسعيه منذ فترة الى المناداة على من يقوم بالمهمة بدلاً منه. وهو امر لم ينطل على الحريري ومناصريه، كما على احد من النواب الذين فوجئوا بمحاولة باسيل التأكيد والإصرار على التعاون مع الحريري في تشكيل الحكومة العتيدة، الى درجة نُقل فيها عن بعض نواب التكتل البرتقالي في الجلسة، أنّه لم يقنع بعضاً منهم في كلمته. وهو ما سمح للحريري بالتصعيد كما نوى من قبل، وخصوصاً عندما رفض النصائح الدستورية التي قدّمها باسيل حول طريقة تأليف الحكومة والآلية التي يجب اعتمادها في عملية التأليف، والتي لا يشاركه فيها كثر من الكتل النيابية.

 

ولا يخفي العارفون، أنّ الحريري لم يتسلّح بميزان القوى الداخلية فحسب. فالمواقف الاقليمية والدولية التي تساعد الفرنسيين في ترجمة مبادرتهم متمسّكة به وبمهمته، وإن عاد البعض إلى المواقف الأوروبية والعربية والمصرية خصوصاً، يدرك انّهم جميعاً لم يوافقوا على اي نقاش في اسم بديل منه طوال الفترة السابقة. وعند الدخول في التفاصيل المملّة، فهم من شدّوا أزره لمنعه من الإعتذار عن هذه المهمة لألف سبب وسبب. وهم يراهنون على مبادرات إضافية قد تنطلق قريباً سعياً الى اعادة تجميع القوى الخليجية الى جانب المبادرة الفرنسية، وهو أمر سيخوضه الرئيس الفرنسي شخصياً خلال زيارته الرياض مطلع الشهر المقبل.

 

ومهما طال الشرح حول ما شهدته جلسة السبت الماضي، فإنّها لم تؤخّر ولم تقدّم في مجرى الأحداث، بمقدار ما قدّمت من دعم محدود لرئيس الجمهورية، من خلال التوصية الى الحريري للسعي وبالسرعة المطلوبة لتأليف الحكومة بـ «التعاون» مع رئيس الجمهورية ترجمة للنص الدستوري. وهو أمر لا يُحتسب بحجم ما حصده الحريري منها، عندما أنهى اي محاولة اخرى للعبث بالتكليف، وهو ما سيعطيه دفعاً جديداً في انتظار ما يمكن ان تأتي به المبادرات الخارجية المنتظرة.

 

وختاماً، لا بدّ من الإشارة إلى انّ ما بات ثابتاً يوحي أنّ كل المساعي الداخلية باءت بالفشل. والرهان من اليوم وحتى الايام العشرة المقبلة، هو على خلطة فرنسية بنكهة مصرية تنتظر ضوءًا أخضر سعودياً وخليجياً، كذلك نصرة واشنطن لها، يتولّى بعض القادة اللبنانيين ترجمتها. وليست مبادرة البطريرك الراعي بدعوته الحريري الى تشكيلة «مُحدثة» لتركيبة 9 كانون الأول الماضي سوى واحدة منها، ستضاف الى أخرى يمكن الحديث عنها قبل نهاية الأسبوع الجاري. وإلّا فإنّ البلاد ستبقى غارقة في معارك همايونية لا نتيجة لها، إن بناها البعض على ضرورة ترتيب العلاقات الشخصية بين الحريري وباسيل، لتفتح الطريق أمام التشكيلة الجديدة، وهو امر لن يكون من السهل ترجمته في ظل المواقف التصعيدية المتبادلة، عدا عما هو منتظر، مما يزيدها حماوة وصعوبة.