تواجه إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تحديات كبيرة سواء على الصعيد الداخلي أو على الصعيد الخارجي. في الداخل، ما زال الرئيس يقوم مع فريقه الطبي المختصّ بكل المساعي الممكنة للتصدي لجائحة كورونا، وتنفيذ وعده بتلقيح مئتي مليون مواطن في الأيام المئة الأولى من عهده. هذه المساعي، وإن كانت تسير في شكل طبيعي، إلا أنّ بضعة ملايين من الإنجيليين وأتباع الرئيس السابق دونالد ترامب يرفضون مجرد فكرة التلقيح، منهم لأسباب دينية ومنهم لأسباب سياسية، ومن شأن ذلك أن يؤخر الولايات المتحدة بعض الشيء في الوصول الى «مناعة المجتمع».

 

على الصعيد الداخلي أيضاً، يسعى بايدن جاهداً لإنعاش الإقتصاد الوطني الذي تراجع بنحو ملحوظ من جرّاء إقفال نشاطات مختلفة بسبب الجائحة، وقد بدأت نسبة البطالة تهبط شيئا فشيئا، ومؤشرات الإقتصاد تسجل بعض التقدم وإن ببطء، ولكن التحديات أمام الإدارة الجديدة ما زالت كبيرة، وتتطلب كثيرا من الوقت والجهد، هذا بالإضافة الى العراقيل التي يضعها الجمهوريون في الكونغرس في طريق جهود الرئيس لإصدار قانون يرمي الى إعادة تأهيل البنى التحتية على كل الأراضي الأميركية، ما يتطلب فرض ضرائب جديدة على ذوي المداخيل المرتفعة، وهذا ما يعارضه الحزب الجمهوري بقوة.

 

أما على الصعيد الخارجي، فإن التحديات كثيرة أيضا ومعقدة، بدءا بالعلاقات الباردة جدا مع الصين، مرورا بالخلافات المتعددة مع روسيا والتوتر في البحر الأسود حيث تدخل البارجات الحربية الروسية والأميركية على خلفية الوضع في أوكرانيا، وعلى خلفية السجال الكلامي بين كل من بايدن وبوتين، وصولاً الى السعي لإعادة إحياء الإتفاق النووي مع إيران واجتماعات فيينا، والمساعي الأميركية لإنهاء حرب اليمن والإنسحاب العسكري الكامل من أفغانستان، وغير ذلك من الأمور بما فيها التوتر المستجد في الخليج العربي بين إسرائيل وإيران.


 
 

في خضمّ هذه الإهتمامات الكبرى الداخلية والخارجية، شاءت إدارة بايدن إيفاد وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية ديفيد هيل الى لبنان والمنطقة، في مهمة رسمية لمدة أسبوع.

 

الهدف من زيارة هيل الى لبنان لمدة ثلاثة أيام كما أعلنته وزارة الخارجية الأميركية في بيان رسمي في 13 من الجاري هو «تأكيد الإنشغال الأميركي على تدهور الأوضاع الإقتصادية والإجتماعية في البلد، وعلى المأزق السياسي الذي يساهم في تدهور هذه الأوضاع». ويضيف بيان الخارجية الأميركية أنّ «وكيل الوزارة هيل سيضغط على المسؤولين اللبنانيين وقادة الأحزاب لكي يجتمعوا ويشكلوا حكومة قادرة وملتزمة تنفيذ إصلاحات في الإقتصاد وفي طريقة الحكم لكي يتمكن الشعب اللبناني من تحقيق طاقاته بالكامل».

 

ومن أجل تقدير أهمية هذه الزيارة وجديتها، لا بد من إلقاء الضوء على شخصية المبعوث والظروف التي ترافق مهمته.

 

السيّد ديفيد هيل ديبلوماسي متمرس يشغل حاليا منصب وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، وكان سكرتيرا في السفارة الأميركية في بيروت في مطلع تسعينات القرن الماضي، ثم مستشارا في هذه السفارة عام 2002 وسفيرا في بيروت بين عامي 2013 و2015، أي أنه يعرف لبنان معرفة جيدة حيث خدم فيه ثلاث مرات في فترات مختلفة، وله عدد من الأصدقاء اللبنانيين، كما أنه أتى الى لبنان في مهمات متعددة كان آخرها العام الماضي.

 

تأتي مهمة هيل هذه في وقت يعاني لبنان أزمات سياسية واقتصادية ومالية قاسية جدا، في ظل وجود حكومة تصريف أعمال محدودة الصلاحيات، وفي أجواء تحول دون تمكن المسؤولين اللبنانيين الكبار من التوافق في ما بينهم على تشكيل حكومة تحظى بثقة المجتمع الدولي، وقادرة على تحقيق إصلاحات، خصوصا في مجال مكافحة الفساد المستشري في أروقة الدولة بشهادة معظم السياسيين اللبنانيين وقادة الدول والمنظمات المالية الدولية، وكل ذلك على خلفية تفجير مرفأ بيروت، مع ما نَجم عنه من خسائر فادحة، والتأخر غير المفهوم في إنجاز التحقيق في هذا التفجير.

 

الإهتمام الدولي بما يعانيه لبنان في هذه الظروف ليس جديدا. لقد زار لبنان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد تفجير المرفأ بيومين، وقابل المسؤولين الكبار معلنا تضامنه مع الشعب اللبناني، ثم قام بعد ذلك بزيارة ثانية اجتمع في خلالها مع قادة الأحزاب اللبنانية، وحضّهم على التوافق السريع لتشكيل حكومة من اختصاصيين قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة، كما أنه نظم لقاء افتراضيا لقادة الدول الداعمة للبنان ولرؤساء المنظمات المالية الدولية، شارك فيه الرئيس اللبناني العماد ميشال عون من قصر بعبدا، وتم التوافق آنذاك على تقديم دعم للشعب اللبناني عبر مؤسسات المجتمع المدني لعدم الثقة بالمؤسسات الحكومية.

 

زار عدد من الوزراء والمسؤولين العرب الكبار لبنان أيضا للإعراب عن دعم بلادهم لهذا البلد المنكوب، وقد أبدوا جميعهم استعدادهم لمساعدة لبنان، شرط تشكيل حكومة من الاختصاصيين تكون قادرة على تنفيذ الإصلاحات المطلوبة. وقد قالها وزير خارجية فرنسا بالفم الملآن: «بربّكم ساعدوا أنفسكم حتى نتمكن من مساعدتكم».


 
 

في هذه الظروف، وبعد كل التحركات الدولية التي لم يتم التجاوب معها لبنانياً، تأتي زيارة الديبلوماسي الأميركي ديفيد هيل، ليقوم، وفقاً لبيان وزارة خارجيته، بالضغط على المسؤولين اللبنانيين لتشكيل حكومة توحي بالثقة، ولم تستعمل الخارجية الأميركية في بيانها عبارة لتشجيع المسؤولين أو لحضّهم، بل شاءت التأكيد على كلمة الضغط، وفي ذلك دليل واضح على اقتناعها بضرورة الضغط لأنّ التشجيع أو الحضّ لم يعد ينفع مع المسؤولين اللبنانيين.

 

هل لدى الإدارة الأميركية وسائل ضغط غير التهديد بعقوبات على المعرقلين، علماً أن العقوبات التي فرضتها على الوزراء السابقين الثلاثة لم تغير شيئا في سلوكهم أو في سلوك الجهات التي ينتمون إليها؟

 

لا شك في أن زيارة هيل للبنان في هذا الوقت بالذات، ومع الإنشغال الأميركي بشتى الأمور الكبرى، تظهر اهتمام الإدارة الأميركية ببلدنا، ورغبتها في مساعدة الشعب اللبناني على الخروج من هذه الضائقة، ومهما كان لدى البعض من انتقادات للمواقف الأميركية، ومهما قيل من أن الولايات المتحدة تسعى الى تجويع اللبنانيين وتركيع لبنان كرمى لإسرائيل، فإن الولايات المتحدة تعرف جيدا أن لبنان لا يشكل خطرا على إسرائيل، وأن لا مصلحة لها في وجود أزمات جديدة على الحدود الشمالية لحليفتها الأولى في المنطقة، بل إن لبنان المعافى المستقر يشكل ضمانا للأمن في المنطقة بكاملها.

 

فزيارة هيل للبنان كما أكدها بنفسه في أكثر من تصريح أدلى به أثناء الزيارة، هي لتأكيد وقوف الولايات المتحدة الى جانب الشعب اللبناني، وتطمينه الى أنه ليس متروكا بل هنالك اهتمام دولي لمساعدته، وتعتبرالزيارة أيضا دعما للمبادرة الفرنسية، وفيها دعم معنوي لحلفاء الولايات المتحدة في لبنان في مواجهة المحور المؤيد لإيران، ولكن هل للولايات المتحدة إمكانية في تغيير أو تحريك الأمور على الأرض؟ وهل لديها الوسائل الكافية لتحقيق الأهداف المعلنة لزيارة مبعوثها إلى لبنان خصوصا لجهة تشكيل الحكومة وتحقيق الإصلاحات وفي طليعتها مكافحة الفساد بجدية؟

 

هنالك اعتبارات يركز عليها بعض الأفرقاء اللبنانيين لإثارة شكوك حول إمكانية نجاح مهمة هيل وفق ما حددتها وزارة الخارجية الأميركية، وهذه الإعتبارات يمكن اختصارها بالآتي:

ـ أولاً، إن هيل هو مبعوث لوزير الخارجية أنطوني بلينكن وليس مبعوثا رئاسيا، كما أنه الثالث في التراتبية الإدارية في وزارة الخارجية الأميركية، وستنتهي وظيفته بعد اسابيع قليلة، ولذلك فهم يعتبرون أنه لا يملك السلطة أو النفوذ لممارسة الضغوط على المسؤولين اللبنانيين.

لا بد هنا من التوضيح أن الإدارة الأميركية يمكنها اختيار من تشاء لتكليفه مهمة خارج البلاد، وهو بالتالي يمثل الإدارة الأميركية ويتكلم باسمها، مهما كانت رتبته أو وظيفته.

ـ ثانيا، هل سيستطيع مندوب أميركي مبعوث لوزير الخارجية أن ينجح في إقناع المسؤولين اللبنانيين في التفاهم على تشكيل حكومة تكون موضع ثقة دولية وتستطيع مكافحة الفساد، في الوقت الذي فشل الرئيس الفرنسي بنفسه بعد زيارتين للبنان واتصالات ولقاءات عدة مع المسؤولين اللبنانيين والقادة السياسيين الكبار؟


 
ـ ثالثا، هل سيوافق «حزب الله» على تليين موقفه من تشكيل الحكومة إكراما لزيارة مندوب أميركي للبنان أنهاها بانتقادات لاذعة له، وبتهديدات مبطنة للمعرقلين وجوائز ترضية للمسهّلين لعملية التشكيل؟

 

قد يكون من المفيد الإشارة الى احتمال وجود علاقة ما بين زيارة هيل للبنان واجتماعات فيينا الدائرة حاليا في شأن الإتفاقية النووية نظرا لتزامن هذين الحدثين، إذ في حال وافق الحزب على تسهيل ولادة الحكومة بناء على نصائح إيرانية، قد تقوم الولايات المتحدة بتليين موقفها مع إيران، أو في حال تشدد الوفد الأميركي في موقفه، يكون موقف الحزب أكثر تصلبا، ويبقى مصير لبنان بالتالي معلقا في انتظار ما تؤول إليه تجاذبات الدول الكبرى.

 

أخيرا، إذا كانت مهمة هيل صعبة في تحقيق أهدافها، فإنه قد يستطيع تسجيل نجاح نسبي في موضوع إعادة التفاوض لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، علما أن هذا الموضوع لم يكن أصلا من مهمته المعلنة، وقد أشار إليه في تصريحه من قصر بعبدا بعد لقائه رئيس الجمهورية ميشال عون حيث أكد استعداد الولايات المتحدة لتسهيل هذه المفاوضات.