الخطاب الذي ألقاه الرئيس جو بايدن في وزارة الخارجية الأميركية بعد تسلّمه زمام الرئاسة بأسبوعين، أي في الرابع من شهر شباط المنصرم، حدد الخطوط العريضة للسياسة الخارجية الأميركية في عهده، وكان ملفتاً عدم تطرقه، لا من بعيد ولا من قريب، الى موقف إدارته من القضية الفلسطينية، علما أنه كان قد انتقد بشدة، في حملته الإنتخابية، سياسة سلفه ترامب من هذه القضية، خاصة لجهة ما عرف بـ"صفقة القرن" والقرارات المجحفة بحق الفلسطينيين التي كان ترامب قد اتخذها.

لقد أوحى بايدن في هذا الخطاب أنّ أولوياته تشمل علاقات الولايات المتحدة المتأزمة مع كل من الصين وروسيا، ورغبته بإنهاء حرب اليمن، وقد ثبت لاحقاً انه لم يكن يريد تخصيص جهد كبير في السعي شبه المستحيل لحل القضية الفلسطينية، في الوقت الذي تواجه إدارته تحديات خارجية كبرى، لا سيما مسألة إعادة إحياء الإتفاق النووي مع إيران.

 

ومعروف أن الرؤساء الأميركيين السابقين خصّصوا الكثير من الوقت والجهد سعياً الى حل هذه القضية، ولكنهم لم يصلوا الى نتيجة مقبولة، ولذلك كان الرئيس بايدن يحاول تجنّب الخوض في غمار هذه المشكلة المستعصية، الى أن فاجأته أحداث القدس وغزة، مع الخطورة الكبيرة في تدهور الأوضاع، وما قد يشكله هذا التطور من عرقلة للمسائل الداخلية والخارجية التي يود معالجتها.


 
 

يعتقد عدد من المراقبين في الولايات المتحدة، ومن بينهم يهود أميركيون مؤيدون لإسرائيل بصورة عامة، أن نتنياهو أخطأ بالسماح لمستوطنين من اليهود بطرد مواطنين فلسطينيين من منازلهم حتى قبل صدور قرار المحكمة العليا في هذه القضية، وفي السماح للشرطة الإسرائيلية بدخول المسجد الأقصى في شهر رمضان وإطلاق الرصاص المطاطي على المصلين ورشهم بالغاز المسيل للدموع، ما أشعل الغضب الكبير لدى الفلسطينيين في القدس وحملهم على هذه الإنتفاضة الكبيرة المفاجئة.

 

يبدو أن نتنياهو، على خلفية عدم تمكنه من تشكيل حكومة واحتمال محاكمته بالفساد والذهاب الى السجن على غرار ما حصل لسلفه إيهود أولمرت منذ سنوات، ومع احتمال حصول انتخابات جديدة في إسرائيل للمرة الخامسة في سنتين من الزمن، قرر افتعال بعض الأحداث لحمل الفلسطينيين على التحرك ومن ثم قمعهم بالقوة للظهور بأنه القائد الوحيد الذي يستطيع لجم أي تحرك فلسطيني، وللسعي الى كسب مزيد من التأييد في حال أجريت انتخابات، ما قد يمكنه من العودة بقوة الى رئاسة الحكومة.

 

كذلك قد يكون نتنياهو، بالإضافة الى ذلك، يحاول التشويش على المفاوضات الجارية في فيينا لعرقلة عودة الولايات المتحدة الى الإتفاقية النووية مع إيران التي أعلن منذ البداية وقوفه بقوة ضدها، وكان قد حضر الى واشنطن قبَيل توقيع الإتفاقية في شباط 2015، والقى خطابا في الكونغرس شديد اللهجة ضدها، ولكن الرئيس الأسبق أوباما ونائبه آنذاك جو بايدن لم يستقبلا نتنياهو، ووقعت الإتفاقية وأصبحت سارية المفعول، الى ان انسحب منها الرئيس السابق ترامب في أيار 2018. وقد التزم بايدن في حملته الإنتخابية بإعادة الولايات المتحدة الى هذه الإتفاقية، والمفاوضات جارية حاليا في فيينا لهذه الغاية.

 

العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في القدس، سواء من قبل قوى الأمن الإسرائيلية أو من قبل المستوطنين، حمل حماس على التدخل لدعم فلسطينيي القدس عبر إرسال قذائف الى الداخل الاسرائيلي، ما تسبب بقصف إسرائيلي قوي في غزة أدى الى مقتل العشرات من المدنيين من بينهم أطفال ونساء، وتدّعي إسرائيل أنها قتلت عدداً من القياديين من حركة حماس من خلال هذا القصف الجوي المركز على أبنية سكنية في غزة.

 

كيف يمكن قراءة هذه الإنتفاضة حيث توسعت التوترات من القدس الى معظم الأراضي الفلسطينية؟


 
 

أولا: لقد دلّت هذه الإحتكاكات بين المواطنين الفلسطينيين والقوات العسكرية الإسرائيلية على أن القضية الفلسطينية عادت الى الواجهة بعد ان اعتقد كثيرون أن الرئيس السابق ترامب قد تمكّن من دفنها عبر ما سماه «صفقة القرن»، وعبر الاعتراف بأنّ الضفة الغربية تعود لإسرائيل. لقد أثبتت الأحداث الجارية للمجتمع الدولي أن القضية الفلسطينية ما زالت موجودة بقوة، وأن الشعب الفلسطيني لن يتنازل عن حقوقه المشروعة، وأن لا سلام في المنطقة قبل إيجاد حل عادل لهذه القضية التي هي قضية إنسانية وقضية شعب مهضومة حقوقه قبل أن تكون مجرد قضية سياسية يمكن حلها عبر اتفاقات تتم خارج إطار الشعب الفلسطيني.

 

ثانيا: نتيجة لبعض الإتصالات التي أجريت من قبل أطراف دوليين مع محمود عباس، سرعان ما تبين أن الرئيس الفلسطيني لا يملك سلطة تذكر على الأرض، ولا تأثير له على مجرى الأحداث، وأنه أصبح شبه معزول خاصة بعد أن اتخذ قرارا بتأجيل الإنتخابات الرئاسية والتشريعية، متذرعاً بأن إسرائيل لن تسمح لفلسطينيي القدس بالإقتراع، واضعا بذلك، عن قصد أو غير قصد، قرار تحديد تواريخ الإنتخابات الفلسطينية بيد إسرائيل.

 

ثالثا: لقد أثبتت هذه التطورات أن إسرائيل دولة عنصرية تسعى الى تهويد كافة الأراضي المحتلة عبر اتّباع سياسة التطهير العرقي بحق الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين، مطلقة الحرية التامة للمستوطنين بالقيام باعتداءات متكررة على الفلسطينيين وممتلكاتهم، وبالسعي الى طردهم من أراضيهم ومساكنهم، وتدمير محاصيلهم الزراعية.

 

رابعا: لقد أدت أيضا هذه الأحداث إلى إرغام الرئيس بايدن على إعادة النظر بأولويات سياسته الخارجية لإيلاء القضية الفلسطينية بعض اهتمامه، ومن هذا المنطلق، فهو أوفد الى المنطقة نائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية السيد هادي عمر (لبناني الأصل مولود في بيروت عام 1967) سعياً الى تهدئة الأوضاع وصولاً الى وقف اطلاق النار، هذا مع العلم أن مهمة السيد عمر لن تكون سهلة لأن الإدارة الأميركية ترفض اي اتصال مع مسؤولي حركة حماس لاعتبارها الحركة منظمة إرهابية، مما قد يستدعي طلب تدخل مصر، كما أن الإتصال مع الرئيس محمود عباس قد لا يؤدي الى نتيجة ملموسة إذ لا سلطة فعلية له على الأرض.

 

خامسا: قد تكون النتيجة السلبية الكبرى على إسرائيل تعثر مسار التطبيع مع بعض الدول العربية، إذ كيف ستستمر الدول التي أقامت علاقات دبلوماسية واقتصادية وتبادل سياحي مع إسرائيل في تعزيز هذه العلاقات في الوقت الذي ترى ما تفعله إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني من قمع وقصف وتقتيل وتهجير وتنكيل، كما ان الدول التي كانت تفكر بالتطبيع أو ربما بدأت بمفاوضات سرية مع إسرائيل، ستضطر في ظل ما يحدث الى تجميد أي اتصال مع هذا الكيان والتريث كثيرا قبل المضي في طريق التطبيع.


 
 

لا شك أن الأحداث الجارية حاليا في الأراضي الفلسطينية تشكل ضربة قوية لمساعي إسرائيل للتطبيع مع أكبر عدد من الدول العربية في محاولة منها لفصل العرب عن القضية الفلسطينية، وترك الفلسطينيين وحدهم من دون دعم عربي في مواجهة إسرائيل، إلا أن هذا المخطط قد فشل على ما يبدو، ولا يمكن تصور أن دولاً عربية تقبل أن تقيم علاقات عادية مع إسرائيل في الوقت الذي تقوم فيه هذه الأخيرة بمثل هذه الأعمال ضد الشعب العربي الفلسطيني.

 

ومن هذا المنطلق، وفي حال استمرت إسرائيل في قمعها للشعب الفلسطيني بهذه الأساليب الوحشية، على الدول التي طبعت علاقاتها أن تهدد إسرائيل بإيقاف التطبيع، وقطع العلاقات، وتقديم كل الدعم للفلسطينيين، في حال لم تتوقف الدولة العبرية عن مهاجمتهم ولم توافق على حل القضية عبر إعطائهم حقوقهم المشروعة.

 

لا بد من التذكير هنا أن الرئيس بايدن سبق له أن أعلن أنه سيبقي على بعض القرارات التي اتخذها سلفه ترامب مثل نقل السفارة الأميركية الى القدس، والإستمرار في سياسة تشجيع دول عربية وإسلامية على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل، وهنا يأتي دور الدول التي أصبح لها علاقات طبيعية مع إسرائيل لثَني الولايات المتحدة عن المضي في هذه السياسة، خاصة في ظل مواقف إدارة بايدن الحالية والمؤيدة لإسرائيل سواء في مجلس الأمن أو في اتصالات رسمية بين بايدن ونتنياهو أو بين وزراء خارجية الدولتين حيث تم التأكيد الأميركي على «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، ما أعطى انطباعا بأن الولايات المتحدة توافق على الأعمال العسكرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين.

 

وقد أثبتت الأحداث الجارية أن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو حل الدولتين، كي لا تستمر دوامة العنف كل فترة من الزمن بانتفاضة بعد الأخرى، وبحيث يتمكن كل من الشعبين من الحياة بأمان في دولته، ويبقى في هذه الحالة مشروع السلام العربي، الذي أقرته قمة بيروت عام 2002، الإطار السليم الذي من شأنه أن يشكل حلا مقبولا ويؤدي الى تحقيق السلام في هذه المنطقة بعد عقود من الحروب والإضطرابات التي ذهب ضحيتها مئات آلاف القتلى، وتسببت بدمار متكرر للبنى التحتية وتراجع كبير في اقتصادات معظم دول المنطقة.