عند كلّ محطة اغتيال يشهدها لبنان، ينصدم الكثير منّا بكمّ اللامبالاة واحياناً حتى التشفي  والشماتة الذي يظهره البعض ويبديه عند موت من يعتبرونه "الآخر". لا يسعنا عند التفكير بهذه الظاهرة، خاصةً ان الكثير من غير المبالين او المتشفين والشامتين هم اشخاصٌ "عاديون"، ونقصد هنا بعاديين اشخاصاً ليسوا بالضرورة اشراراً او قساة القلوب في حياتهم اليومية وهم يتوزعون على مختلف الفئات العمرية  والاجتماعية، سوى التفكير بالانماط النفسية-الاجتماعية التي يتأثر بها هؤلاء وكيف يمكن للإنسان "العادي" التحول في لحظةٍ معيّنة الى مؤيدٍ او على اقلّ تقديرالى غير مستهجنٍ لأبشع الافعال الانسانية التي اتفقت على إدانتها كل الفلسفات البشرية والأديان السماوية على حدٍّ سواء وهي القتل. 

 

 

قد يكون من المهم في هذا السياق ومن أجل فهمٍ اشمل وأعمق لهذه الظاهرة، استعراض ومقارنة بعض التجارب والمحطات التي شهدت جرائم ضدّ "الآخر"، سواء كانت هذه الجرائم جماعيةً تطال عدداً كبيراً من البشر ام اغتيالات سياسية تطال اشخاصاً منفردين إنما الهدف منها الاغتيال المعنوي للجماعة التي يمثلها هذا الشخص او ينتمي اليها او يعتبَر مؤثراً فيها، وذلك من اجل فهم النمط الذي تقوم عليه هكذا تجارب والعوامل الاساسية المشتركة التي تقوم عليها. وبما ان تاريخنا البشري يمتلىء بمحطاتٍ مأساوية لا تعدّ ولا تحصى (قد يدفعنا التفكير فيها الى اسئلةٍ جوهرية كبرى حول طبيعة الانسان وتجذّر الشر فيها وما الى ذلك)، وجب الاقتصار على عددٍ قليلٍ يمكن لهذا المقال الالتفات لها وهي على سبيل المثال لا الحصر التجربة النازية في المانيا لما شكّلته من محطةٍ اساسية خلال القرن الماضي غيّرت الكثير في مفاهيمنا كبشرٍ على هذه الأرض ونتج عنها العديد من الدراساتٍ حول كيفية تحويل المواطن العادي الى قاتل او متفرجٍ ومؤيدٍ للقتل، ثم تجربة سوريا الاسدية خلال الثورة التي اندلعت في البلاد العام 2011 والتي شهدت مجازر قد تكون الاكبر خلال القرن الحادي والعشرين ثم الساحة اللبنانية التي كانت ولا تزال شاهدةً على اغتيالات سياسية ولكن نخصّ هنا تلك التي بدأت منذ العام 2005 وصولاً الى اغتيال الناشط لقمان سليم في الرابع من فبراير 2021. 

 

 

في المانيا النازية، وقبل بدء عمليات القتل الممنهج والمنظم، كانت السلطات تعمل على بثّ خطابٍ ايديولوجي يهدف اولاً الى نزع الصفة الانسانية او الآدمية عن "الآخر" اليهودي  او الغجري أو غيره ممن يُعتبَر اقلّ شأناً وهذا ما يتناوله عالم الاجتماع وعلم النفس هربرت كيلمان (Herbert Kelman) عندما يقول: "إن المثبطات الرادعة لقتل النفس البشرية قوية جداً بشكلٍ عام مما يستلزم تجريد الضحايا من اعتبارهم الانساني..."، ولذا لم يكن غريباً مثلاً توزيع مناشير دعائية تظهر مقارنةً بين صورتين: واحدة للرجل الآري صاحب السلالة "النظيفة" بجسمه الرياضي الطويل و أخرى لشخصٍ سمينٍ ينتمي الى أحد العروق "الأدنى" بحسب النظرية النازية في إشارةٍ الى تفوّق الآرية وتمثيلها للإنسان الحقيقي الذي يستحق الحياة في مقابل الانسان الآخر الاقل قيمةً والذي يشكّل وجوده خطراً على البشرية ككلّ وبالتالي تأليب الرأي العام الألماني ضد هذه الجماعات على اساس التمييز العرقي والبيولوجي اعتماداً على تفسير مشوّه ومريض لنظرية التطور والانتقاء الطبيعي. وعلى المقلب الآخر، كان يتم تنظيم حملاتٍ مماثلة لنزع الرحمة والانسانية من الجلادّ والجمهور الموالي على حدٍّ سواء. وتذكر الباحثة الاجتماعية حنة آرندت (Hannah Arendt) في كتابها "تقرير حول تفاهة الشر" أن المسؤولين عن الجرائم العظمى هم موظفون عاديون يرددون شعارات الدولة وقد لا يحملون كرهاً خاصاً لضحاياهم ولا موقفاً اخلاقياً شريراً لقتلهم.

 

 

 ويمكن توسيع هذه الفكرة لتشمل الجمهور الذي لا يجب ان يكون بالضرورة غير اخلاقي على الصعيد الفردي او في حياته اليومية وإنما لا يستنكر قتل من يتم تصويرهم على انهم "الآخر" العدو او الخطر ضمن إطار الخطاب الايديولوجي المبرمج للسلطات، الذي يعتمد على الثنائية الأزلية - ثنائية الخير والشرّ- أي الأنا الخيّر مقابل الآخر الشرير وابرز النتائج المترتبة عن هذا الإدراك هو التعميم المفرط (overgeneralization). 

 

 

في الانتقال الى الحالة السورية، نجد أن حزب البعث ومنذ استلام آل الاسد للسلطة بشكلٍ خاص استثمر في عددٍ لا يستهان به من التناقضات الثنائية لتعميق اختلافات/خلافات موجودة أصلاً او لخلق خلافات جديدة يمكن له استخدامها عند الحاجة. ففي كتابه "سوريا: الدولة المتوحشة"، يذكر ميشال سورا (Michel Seurat) على سبيل المثال أن النظام عمل على تنشيط معاداة الريف للمدينة في الذاكرة الجماعية للشعب السوري وتفعيل "تاريخ استغلال المدينة لسكان الريف" وذلك في اطار التغيير الديمغرافي للمدن السورية. كما عمل النظام على تجذير الانقسامات الطائفية وتعميقها بشكلٍ خفي للعوام تحت غطاء خطاب قومي ايديولوجي لا يزال يحافظ عليه حتى يومنا هذا. والمثير للاهتمام ان النظام قد استغل هذه التناقضات الثنائية في الاتجاه المعاكس ايضاً. فمع بدء الثورة السورية في العام 2011، حاول النظام إظهارها على انها ثورة ارياف وأعاد استغلال الثنائية القديمة "ريف/مدينة" ولكن بشكلٍ معكوس أي كنوعٍ من انتقام الأرياف وصبغها بالتخلف الثقافي والديني. وفي سياق الامثلة التي تؤكد ذلك، يمكن أن نذكر الجدالات التي كانت تحصل على وسائل التواصل الاجتماعي إبان الهجمات التي شنّها النظام على مدينة حلب مثلاً والتي صاحبها قتل وتهجير أعداد كبيرة من اهالي وأحياء المدينة؛ ففي معرض الردود على اتهامات المعارضة للنظام بقتل المدنيين من اهالي حلب وتهجيرهم، كان البعض يدافع قائلاً أن هؤلاء ليسوا من سكان حلب بل هم من الذي انتقلوا اليها من الأرياف وكأن المسألة الاساسية هي تحديد "نقاوة" انتماء هؤلاء الى المدينة وليس فعل القتل والتهجير بحدّ ذاته في إشارة الى إسقاط الصفة الانسانية عن الضحية مرةً أخرى. وفي الوقت عينه، لم يتوانَ مؤيدو النظام ومنهم "مثقفون" من كتّاب وشعراء وفنانين عن تأييد هذه الممارسات من دون أدنى شعور بالذنب، فهم قاموا بذلك باعتبارهم مواطنين "صالحين" يؤيدون اجراءات "طبيعية" يضطر النظام الحاكم لاتخاذها من اجل إعادة الامور الى مسارها الطبيعي؛ وهنا تجدر الإشارة ايضاً الى تعميم صفات "الشرّ" على "الآخر" وشيطنته كمقدّمةٍ لا بدّ منها لبدء استباحة دمائه فيما بعد. 

 

 

أما الساحة اللبنانية، وعلى الرغم من أن ما يميّزها من العام 2005 هو الاغتيالات الفردية وليس القتل الجماعي، إلا ان الهدف من هذه الاغتيالات لم يكن قتل الشخص المعنيّ فقط وإنما القتل المعنوي للجماعة التي قد ينتمي اليها المقتول سواء على الصعيد الديني او السياسي او الفكري. وبمعزلٍ عن غياب التحقيقات الجديّة لمعرفة الجناة والقتَلة وبعيداً عن الاتهامات المباشرة لجهةٍ معيّنة، سنسلّط الضوء على تعاطي الجمهور المعارض للشخصيات التي تم اغتيالها مع الحدث بدءاً باللامبالاة والتقليل من شأن الحدث وصولاً الى التشفي والشماتة. هنا ايضاً نجد ان العنصر الاساسي هو تجريد الضحية من مواصفات المواطن "الخيّر" او "الحقيقي" والتحضير للاغتيال الجسدي بحملات شيطنة وتخوين تجعل من فكرة قتل الشخص المعني اقلّ وطأةً وأقلّ استهجاناً، فهو ببساطةٍ يمثلّ الطرف الشرير في الثنائية الازلية الآنفة الذكر وليست اللامبالاة بشأن موته او حتى الموافقة الضمنية او العلنية على ذلك إلا تأكيداً على وقوف الشخص على الجانب الصحيح من المعادلة. كذلك، يبدو عنصر استغلال التناقضات الثنائية وتعميمها المفرط جلياً عبر استغلال سذاجة الجماعة وتحديد هوية "الآخر" حسب هذه الثنائية، وفي هذا الفعل تسطيح شديد للاختلاف الذي ينعدم حسب هذه النظرية ويتقلص ليتحول الى معادلة: "الأنا" الصالح مقابل "الآخر" الطالح،  وليست التعليقات التي تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي الا خير دليل على هذا النمط من التفكير الذي يتلخص في لبنان في ثنائية مقاوم - وطني مقابل غير مقاوم - خائن، علماً أن هذه الثنائية تعتمد على فهمٍ قاصرٍ وغير موضوعي لمفهوم "المقاومة" وليست سوى واجهةً لمشروعٍ سياسي اكبر قد لا يعيه هذا الجمهور تماماً؛ ويصبح  همّ هذا الجمهور هو إثبات صحة مساره وعدم خروجه عن "حقيقة" الجماعة في تبرير لأفعالٍ يصعب على الفطرة البشرية تبريرها. فمثلاً بعد اغتيال الناشط لقمان سليم، تراوحت التعليقات ما بين تسخيف الحدث وإعطائه طابعاً شخصياً الى محاولة تبريره كون الضحية لا ينتمي الى الطرف "الخيّر" وصولاً الى التعبير عن التشفي وحتى التعبير عن الرضا لأن هذا هو المصير "الطبيعي" الذي يجب ان يلقاه كل من يمثل الطرف "الشرير" في المعادلة. 

 

 

قد تختلف السياقات الزمانية اوالمكانية او الظرفية، إلا ان الثوابت في عملية "صناعة" كراهية "الآخر" ثلاثة: اولاً، نزع الصفة الانسانية عن الضحية لتبرير قتلها او اضطهادها، ثانياً تجريد الجلاد والجمهور من انسانيته للتخلص من أيّ تبعات اخلاقية او نفسية قد يشعر بها وثالثاً استخدام تناقضات ثنائية مبسّطة وسطحية مستقاة من ثنائية الخير والشرّ الأزلية وتعميمها بشكلٍ لا منطقي ولا موضوعي كستارٍ تتخفى وراءه المشاريع الحقيقية  لصانعي هذه السياسات. 

 

 

د. نور الشل