كيف نقيس اليوم حلم المواطن الطرابلسي الذي أودع ابنته مؤسسة عسكرية تحمي الوطن بكامله، وحلم الأحنف بن قيس وحلم قيس بن عاصم المنقري الذي طمر ابنته ولم يسمع استغاثتها وقولها: يا أبتِ، أتاركي أنت وحدي ومنصرفٌ عنّي؟
 

في احداث مدينة طرابلس الأخيرة المأساوية، احتجاجاً على الأوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة التي يعانيها المواطنون نتيجة الإغلاق الكامل الذي تسبّبت به جائحة الكورونا، تقدّم أحد المواطنين يحمل طفلته التي لم تبلغ الرابعة من عمرها بعد، ليُسلّمها لفرقة من الجيش اللبناني التي كانت في ساحة الإحتجاجات تحاول ضبط الإنتفاضة، وذلك لعجزه عن رعايتها وإطعامها، ليروي بعد ذلك في مقابلة على قناة Lbc مع الإعلامي مالك مكتبي، بأنّه غادر المكان وصوت بكاء الطفلة يتردّد في أذنيه ويُدمي قلبه، ليعود بعد حوالي ساعة ليستردّها، أو تُعيدها إليه منظمة الصليب الأحمر اللبناني (التي لا تفوتها مكرمة في هذه الظروف الصعبة)، إلاّ أنّ هذا المواطن ومع كثرة المتعاطفين معه، لم يسلم من انتقادات بعض الثرثارين المتفيقهين، الذين قالوا بأنّه في تصرّفه، إنّما يبتزّ وضع ابنته سعياً لتحصيل رزقه ورزقها معاً.

 

 

 وبما أنّ الشيئ بالشّيئ يُذكر، فقد دفعت بي هذه التعليقات الماكرة على حلقة الإعلامي مكتبي بالأمس: أحمر بالخطّ العريض، لذكر رواية قديمة تندى لها الجبين، وكان بطلها قيس بن عاصم المنقري التّميمي، والرواية رواها قيس بنفسه للرسول صلى الله عليه وسلم عندما وفدَ اليه، فقال: " كنتُ أخافُ سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات، فما وُلدت لي بنتٌ قط إلاّ وأدتُها، وما رحمتُ منهنّ موءودةٌ قط إلاّ بنيّة لي ولدتها أمها وأنا في سفر، فدفعتها أمها إلى أخوالها فكانت فيهم". فلما عاد من سفره طلب ابنته، وأخرجها فحفر لها "حفيرة" فجعلها فيها، وهي تقول: "يا أبتِ، أمُغطِّيّ أنت بالتراب؟ أتاركي أنت وحدي ومُنصرفٌ عنّي؟"... " وجعلتُ أقذفُ عليها التراب حتى واريتُها وانقطع صوتها". فدمعت عينا النبيّ ثم قال: " إنّ هذه لقسوة، وإنّ من لا يَرحم لا يُرحم".

 

 

إقرأ أيضا :  اللبنانيون يبدأون مئوية لبنان الكبير الثانية بلا احتفاءٍ، لمئة سبَب وسبب

 

 

وهذا قيس بن عاصم المنقري الذي اشتُهر بالحلم بالإضافة إلى مزايا عديدة لم تبلغ شدّة حلمه، وهو الذي عندما وفَدَ إلى النبي بسط له النّبيُّ رداءه، وقال: هذا سيّدُ الوبَر، وأصبح هذا اللقب مُصاحباً له، حتى أنّ الأحنف بن قيس التّميمي، والذي اشتُهر بحلمه، وقيل بأنّ بني تميم عاشوا بحلم الأحنف أربعين سنة، وقيل بأنّ رجلاً خاصم الأحنف وقال: لئن قُلتَ واحدة لتسمعنّ عشراً، فقال الأحنف: لكنّك إن قلتَ عشراً فلن تسمع واحدة، وقيل للأحنف: ممّن تعلمت الحلم؟ قال، من قيس بن عاصم المنقري، رأيتهُ قاعداً بفناء داره، مُحتبياً بحمائل سيفه، يُحدّث قومه، حين أُتيَ برجلٍ مكتوف، ورجلٍ مقتول، فقيل له: هذا ابنُ أخيك قتلَ ابنك، فوالله ما حلّ حبوته، ولا قطع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه وقال: يا ابن أخي، أسأتَ إلى رحمك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلتَ ابن عمك، ثم قال لابنٍ له آخر: قم يا بني، فحُلّ كِتاف ابن عمك، ووارِ أخاك، وسُق إلى أمّهِ مائة ناقة دِيّة ابنها، فإنّها غريبة.

 

 

كيف نقيس اليوم حلم المواطن الطرابلسي الذي أودع ابنته مؤسسة عسكرية تحمي الوطن بكامله، وحلم الأحنف بن قيس وحلم قيس بن عاصم المنقري الذي طمر ابنته ولم يسمع استغاثتها وقولها: يا أبتِ، أتاركي أنت وحدي ومنصرفٌ عنّي؟