قبل أن تبنى الآمال على نسخة منقحة من المبادرة الفرنسية، لا بد من التوقف عند بعض ما أعاق انطلاقة الاولى منها وحال دون تحقيق ما قالت به "خريطة الطريق" من اجل التعافي الاقتصادي واعادة الاعمار. وهو ما ردّه ديبلوماسي غربي الى رفض بعض القادة الالتزام بما تعهدوا به على "طاولة قصر الصنوبر" وصولاً الى اتهامهم بـ"الكذب"، مستعيراً التهمة من أفواه اللبنانيين. فكيف ولماذا؟

بعد مرور 6 اشهر على المبادرة الفرنسية الانقاذية التي اطلقها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون من بيروت، تَجَدد الحديث في الايام القليلة الماضية عن نسخة جديدة ومتطورة منها. فالجميع يدرك انها مبادرة انطلقت بهدف معالجة الازمة المتعددة الوجوه التي تسببت بها «نكبة بيروت» في 4 آب الماضي، وزادت من حجم الاثقال الملقاة على اللبنانيين في ظل الأزمة النقدية والمالية التي كانوا يعيشونها، وبلغت الذروة بانتشار جائحة «كورونا»، فبات من المتعذر تحمّل كلفتها الباهظة بكل المقاييس الطبية والانسانية والتربوية والمادية.

 

وعلى وقع السباق الذي خاضه اللبنانيون تأييداً للمبادرة الفرنسية ودعماً لها بعد توصيفها بـ»المبادرة الوحيدة» المطروحة، فقد انهارت بنودها واحدة تلو أخرى، وإن عاد اللبنانيون الى بنودها فإنه لا يمكن تجاهل العقبات التي أدت بالرئيس المكلف تشكيل «حكومة المهمة» السفير مصطفى اديب الى الاعتذار عن تشكيلها بعد 26 يوماً على تكليفه المهمة في الاول منه. وبقيت تتعرض للنكسات رغم اعادة تكليف الرئيس سعد الحريري المهمة عينها في نهاية تشرين الاول الماضي، فبقيت كل الطروحات التي تتناقض مع «المواصفات الفرنسية» تتعرض لكل اشكال العرقلة.


 
 

فلم ينسَ اللبنانيون مسلسل المطالب المتناقضة مع ما قالته «خريطة الطريق» الفرنسية، بدءاً من مطالبة الثنائي الشيعي بتثبيت حقيبة المال من حصتهما الثابتة، والتي عطّلت تلقائياً مبدأ المداورة بين الحقائب السيادية الاربع بعد الخلاف على وجودها كبند من بنود المبادرة الفرنسية أم لا. وما زاد في الطين بلة تعالي الاصوات مجدداً لتسمّي الاحزاب ممثليها على هامش النقاش حول طريقة تأمين «الثلث المعطل» الذي يطالب به رئيس الجمهورية و»التيار الوطني الحر» اذا بقي الحريري مكلفاً تأليف الحكومة العتيدة، وتعالت معه اصوات درزية عبَّر عنها من يدعو الى تكريس الثنائية الدرزية في الحكومة، وهو ما تُرجم بمحاولة إعادة البحث بحكومة عشرينية رغم مرور فترة طويلة على التفاهم على تشكيلة الـ 18 وفق معادلة الـ (6×6×6) لتكون خالية من أي ثلث ما لم تُجمٍع اكثر من قوة على توفيره لتطيير الحكومة في اي لحظة.

 

لا يتجاهل العارفون حجم المأزق الذي بلغته عملية تأليف الحكومة بعدما سدّت الطريق الى التفاهم على التشكيلة المطلوبة وفق المبادرة الفرنسية بعد 14 لقاء بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، فتجدد الحديث عن نسخة جديدة من المبادرة الفرنسية تزامناً مع نظرية الدعوة الى انتظار وصول الرئيس الاميركي الجديد جو بايدن الى البيت الابيض لتعطيل ما سمُّي - عن خطأ أو صواب ـ إسقاط الشروط الاميركية التي كبّلت الرئيس المكلف إصرار الرئيس السابق دونالد ترامب على حكومة خالية من ممثلي «حزب الله»، وهو ما لم يثبت، ليس لسبب سوى انتفاء وجود مشكلة اسمها وزراء «حزب الله» في الحكومة، فقد اعتاد الحزب على تسمية وزراء لا يحملون البطاقة الحزبية، والتجارب السابقة خير دليل.

 

عند هذا المنعطف، تقول المراجع المعنية، تَجدّدَ الاتصال بين الرئيس الفرنسي ونظيره الاميركي الجديد، ووضع ملف لبنان على جدول اعمال الطرفين. وبعد الاتفاق على آلية عمل قابلة للتنفيذ، اتفقا معاً على إيكال المهمة الى كلّ من وزير الخارجية الفرنسية جان ايف لودريان وصديقه الشخصي نظيره الأميركي انتوني بلينكن لاستكمال بناء ما تم التفاهم في شأنه لإنقاذ لبنان من جحيمم الازمات المتفاقمة الى درجة هَدّدت وحدة الدولة ومؤسساتها. وعليه، قيل انها كانت محادثات بناءة، فدخلا في كثير من التفاصيل وصولاً الى تكليف أميركي للفرنسيين بتقديم عرض جديد سمّي «المبادرة الفرنسية المنقحة» للحل في لبنان، على ان يبقى الطرفان على تواصل.

 

ومن هذه الوقائع، طُرح السؤال على المستوى الديبلوماسي: ما الذي يمكن ان تأتي به هذه النسخة المنقحة؟ وهل يمكن للفرنسيين ان يسحبوا تشكيلة «حكومة المهمة» من التداول والانتقال الى مَحو صفة «الحيادية» وانبعاث مشروع حكومة «تكنو ـ سياسية» تجمع في تركيبتها كل بذور الانفجار عند أول استحقاق بين مجموعة من القيادات تتناحَر على كل شيء ولا تبحث سوى عن حصصها ومواقعها في الدولة والمؤسسات، في وقت انهارت هذه الدولة ومؤسساتها على خلفية النزاع الذي لا مخرج له سوى باتفاق جديد على إعادة توزيع الحصص وفق موازين القوى التي تفرضها أحداث المنطقة والعالم.

 
 

وبعيداً من اي سيناريو لم تتوافر عناوينه بعد، فقد كشف العارفون انّ ماكرون وعد عون، في الاتصال الذي تم بينهما السبت الماضي، باستئناف الاتصالات مع القيادات اللبنانية بغية تسهيل عملية التأليف. وهو امر لم تظهر نتائجه بعد رغم مرور 4 ايام على التعهد الفرنسي الجديد.

 

وعليه، وفي انتظار تلك اللحظة وما يمكن ان تؤدي اليه المساعي الفرنسية المتكررة، كشف ديبلوماسي غربي انه مضطر الى دعوة اللبنانيين مرة اخرى الى الاقتناع بأنّ المبادرة الفرنسية هي «لإنقاذ لبنان وليس فرنسا». ولذلك فهو مضطر الى استعارة «تعبير لبناني» في توصيفه للاسباب التي دفعت ماكرون الى تجديد مسعاه، فهو ينطلق من اقتناعه انه وقع ضحية «كذب» اللبنانيين، وانّ ما يأمله هو ان يصدقوا هذه المرة؟