بعدما عبرت المهلة التي حدّدها الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون لتوليد الحكومة، توجّهت الانظار الى باريس لمعرفة ردّات الفعل السلبية لديبلوماسيتها التي عبّرت عن استيائها من إداء اللبنانيين. وفيما لم تسمِّ فرنسا بعد الطرف المعرقل، يتفنن اللبنانيون في تفسير مبادرتها. وعليه هل سيكون «الرئيس القوي» قادراً على فك الرموز مما هو قائم بين «الرباعية السنّية» و»الثنائية الشيعية»؟!

يعتقد بعض اللبنانيين من مسؤولين وبسطاء، انّ الادارة الفرنسية ومنذ الاول من ايلول الجاري تاريخ اعلان «المبادرة الفرنسية» الخاصة بلبنان، قد جمّدت نشاطاتها في الداخل والخارج، في انتظار تشكيل الحكومة اللبنانية والإطمئنان الى سلامة تطبيق المراحل اللاحقة التي قالت بها من ألفها الاقتصادية والنقدية وإعادة اعمار ما خلّفه انفجار المرفأ، الى يائها الإدارية وبناء الأجهزة الضامنة لمكافحة الفساد.

 

ولذلك، يصعب اقناع بعض اللبنانيين بتغيير نظرتهم الى هذه المبادرة وقراءة اسبابها الموجبة والدوافع التي قادت اليها، من دون ان يتجاهل احد انّها طُرحت قبل انفجار المرفأ والنكبة التي حلّت بالعاصمة ومرفئها، وقبل ان تُطلق واشنطن لائحتها الجديدة بالعقوبات التي طاولت كيانات وشخصيات لبنانية ومن مختلف القارات، من ايران والصين وكوريا الشمالية وفنزويلا ودول اخرى. ولكن ما حصل في 4 آب شكّل دافعاً للرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الى قيادة المغامرة الجديدة شخصياً، بغية اعطائها الزخم الذي تستحقه، نتيجة ما بلغته الأزمة من ابعاد مختلفة رفعت من نسبة القلق على مصير البلاد ومؤسساتها الدستورية، توصلاً الى اعلان لبنان دولة فاشلة.


 
 

وعليه، تفاوتت القراءات لعناوين المبادرة ومحطاتها المتدرجة، التي يمكن في حال الالتزام بها، اعادة وضع البلد على سكة الحل، من دون التنكّر الى حجم العوائق التي عليه تجاوزها، إن صفت النيات وتوحّدت الرؤى إزاء مكامن الخطر. وهو ما تولّاه ماكرون شخصياً، عندما اثمرت جهود خلية الأزمة التي كلّفها بعد زيارته الأولى في السادس من آب الماضي، إعداد ورقة العمل التي وضعت على طاولة اللقاء الموسّع في اليوم الثاني من زيارته. فهي التي رسمت بعناوينها الأساسية خريطة الطريق الى مرحلة الحل، بما تحتاجه من جهد مطلوب من اهل السلطة والقوى السياسية والحزبية باستثناء من يستثني نفسه من طرف واحد.

 

وعند قراءة ما انتهت اليه طاولة قصر الصنوبر لا يمكن تجاهل اهميتها، فقد اعتُبرت في شكلها بديلاً من تلك الفاشلة التي رغب رئيس الجمهورية عقدها في 25 حزيران الماضي. فالتجربة لم تُنسَ بعد، وانّ التذكير بحجم القوى التي قاطعتها تعطي الأهمية الاستثنائية لما حققتها الثانية. ولكن، وبدلاً من ان يثبت بعض من تحلّق حولها، قدرته على ترجمة التعهدات والوعود التي قطعها للرئيس الفرنسي، بادر في اليوم التالي الى التفنن في تفسيرها بما يهدّدها في شكلها ومضمونها. وهذه عينة من التفسيرات الخاطئة:

- كان صادماً ان يشبّه بعض اللبنانيين المبادرة الفرنسية بتلك التي كان يقودها رموز من زمن الوصاية السورية، وكأن ماكرون تقمّص ادوار ضباط كُلّفوا ادارة شؤون البلاد، وهو امر كان سلبياً جداً واعطى مؤشراً الى ما تلاه من قراءات لبنود أخرى منها.

- راح البعض بعيداً في تفسير كلام ماكرون عن «نظام جديد» للحكم، فاستذكر كلاماً أُطلق سابقاً على خلفيات التهديد بتغيير النظام، بالحديث عن «المؤتمر التأسيسي» على وهج «سطوة السلاح» الذي قيل انّه في مواجهة العدو فحسب. وهو امر كان يجب مقاربته بطريقة أخرى. فكلام ماكرون عن «نظام جديد» لم يكن يهدف الى التلاعب بالديموغرافيا اللبنانية بهندستها الهشة المبنية على منطق «وقف العدّ» بمقدار ما هي تغيير في اسلوب العمل، وإدارة البلاد بعقلية جديدة، عبّر عنها الراعي الفرنسي بإعلانه الصريح عن فشل الطبقة السياسية واركان السلطة في ادارة البلاد، محمّلاً معظم من تحلّقوا حول الطاولة مسؤولية ما آلت اليه الاوضاع، داعياً الى اسلوب جديد للحكم.


 
- يبدو انّ بعض اللبنانيين لم يفهموا بعد ماهية «حكومة مهمة». فهي توصيف فرنسي دقيق لحكومة ذات مهمة محدّدة، لا يمكن تحميلها اي توصيف لبناني للحكومات المتعاقبة. وطالما انّهم وافقوا على هذه المواصفات، لم يكن مقبولاً أن يتحدث احد عن تكريس حقيبة لهذه الطائفة او تلك، ولا التمسّك بهذه البدعة التي لا وجود لها ولم يقرّ بها احد سوى من طالب بها، معطوفة على التهديد بالمقاطعة لتفتقد الحكومة «ميثاقيتها» سلفاً.

- لا يتجاهل احد انّ التوصيف الفرنسي الدقيق لـ «حكومة المهمة» لا يسمح لأي طرف طائفي او سياسي او حزبي ان يسمّي وزراءه بالطريقة التي كانت تجري من قبل، ليُدار بـ «الريموت كونترول». فلا الظروف تسمح بذلك، ولا الأزمة تنتظر مزيداً من تأجيل القرارات الصعبة التي عليها اتخاذها، ليس من اجل الإنفراج الكامل المأمول، وانما لوضع القطار على السكة ليس إلّا.

 

وانطلاقاً من مسلسل الملاحظات هذه، وأُخرى لا مجال لذكرها، لا يبدو انّ البعض ما زال ملتزماً تعهداته امام ماكرون. لا بل فإنّ هناك من ينوي حرف الانظار عنها، من اجل إحباطها والبناء على مجموعة من الأفخاخ التي لا تبني حلاً ولا مخرجاً. ولذلك، فإنّ كل التوقعات تشير الى خروقات جديدة محتملة، ستُبقي البلاد تحت الحصار المضروب منذ ثلاث سنوات ونصف سنة، وهي تهدّد من الآن استحقاقات مالية وانمائية مقبلة، في حال بقيت الامور تُدار بهذه الطريقة، وسط موازين القوى المختل بفعل السلاح والقدرة على تعطيل كثير من المبادرات الخارجية التي توفّر تمويل الخزينة الفارغة وتوفير مقومات اعادة اعمار ما تهدّم.

 

وعليه، ان بقيت الخيارات المطروحة مبنية على قاعدة الإمعان في خرق ما هدفت اليه المبادرة الفرنسية من حياد مطلوب في كثير من بنودها، فإنّ الضحية الأولى المقدّرة لسقوط «حكومة المهمة» المتخصصة والمستقلة سيكون ما تبقّى من العهد. واستطراداً، ان بقي النزاع على ما هو عليه من تصلّب قائم بين «الرباعية السنّية الجديدة» و»الثنائية الشيعية القديمة»، هل يستطيع «الرئيس القوي» فك رموزها، ام انّ الامر بات قائماً على قاعدة «لا حول ولا قوة»؟