لا يريد الرئيس إيمانويل ماكرون أن «يكسر الجرّة» مع أحد في لبنان فيخسر فرصته لرعاية الحلّ. وأبلغ المعنيين بأنه سحب يده من التفاصيل الداخلية في عملية التأليف: «إتّفقوا على تقاسُم الوزارات بأنفسكم، كما كنتم تفعلون دائماً. نحن لا يهمُّنا إلا برنامج الإصلاح». ولكن، إذا حصل ذلك، يكون ماكرون قد تراجع وكرَّس الواقع الذي جاء أساساً لتصحيحه، حيث «حزب الله» يمتلك أعلى مستويات النفوذ. وفي هذه الحال، ماذا سيفعل الأميركيون؟
في الظاهر، تبدو المعركة الدائرة حالياً في لبنان وكأنها بين الفرنسيين و»حزب الله». ولكنها، في الحقيقة، معركة الولايات المتحدة وإيران. وحتى الرئيس ماكرون ما كان قادراً على إطلاق مبادرته لولا أنها تحظى بتغطية أميركية. والفرنسيون، شاؤوا أم أبَوا، يستخدمون عصا العقوبات الأميركية لتسهيل الطريق.

 

لكن الدعم الأميركي لماكرون ليس مجانياً. فواشنطن لن تتيح للفرنسيين أن «يفتحوا على حسابهم» في لبنان، ولن تعطيهم شيكاً «على بياض». إنها تسمح لهم بلعب دور الوكيل لا أكثر، مع تقاضيهم نسبة من الأرباح، بدل الأتعاب. ولهذا السبب، توجَّست طهران من المبادرة الفرنسية منذ البداية، وتصرَّف «حزب الله» بحزم شديد معها.


 
 

الجميع يذكر الكلام المنسوب إلى ماكرون في لقائه النائب محمد رعد. طبعاً، جرى نفي الكثير من المضمون، لكن المؤكد أنّ الضيف الفرنسي طالبَ «الحزب» صراحةً بتغيير سلوكه في الداخل والخارج. وهذا لا يختلف، عملياً، عن الموقف الأميركي.

 

منذ اللحظة الأولى، تحسّب «الحزب» للأسوأ. فمن المستحيل أن يستجيب لـ«تمنيات» ماكرون في أن «يغيِّر نفسه». وهذا الطلب يعني نهاية «حزب الله» الحالي، بكل استراتيجياته، والمجيء بآخر يتبنّى استراتيجيات أخرى. وهذا ما يلتقي مع المطالب الأميركية.

 

عند لقاء ماكرون- رعد، كان كابوس المرفأ، بدماره ودخانه ودمائه والمشرَّدين والغاضبين، يضغط على الجميع، وفوقه الجوع والانهيار المالي والنقدي والاقتصادي. ولم يكن الظرف مناسباً لردٍّ من النائب على الضيف الفرنسي، أو حتى إيضاح. فجرى تأجيل ذلك.

 

وفي العادة، لا يتسرَّع «الحزب» في الردود، بل ينتقل من «الخطة أ» إلى «الخطة ب» إلى خطط أخرى بديلة. لذلك، هو التزم «الصبر»، وقرَّر تنفيس «فائض الحماسة» الفرنسية بالطريقة المناسبة، لأن هذا الفائض هو ما يريد الأميركيون استثماره.

 

هو يريد من فرنسا أن تتشبّث باختلافها مع الولايات المتحدة في النظر إلى الملف الإيراني ككل، وأن تتبايَن معها في التمييز بين الجناح السياسي والجناح العسكري لـ»حزب الله». وكل تنسيق بين الطرفين الدوليين يصبح موضع تشكيك.

 

إقتضى أسلوب «الحزب» في المواجهة أن ينسحب من الواجهة ويدفع الحلفاء إليها. فالرئيس نبيه بري يتكفّل بمعركة وزارة المال، فيما الرئيس ميشال عون يشكّل المتراس الأول في تعطيل أي تشكيلة حكومية. وفي المشاورات، حدّد رعد بوضوح للحليف المسيحي ضوابط اللعبة: المالية لنا والأسماء الشيعية كلها. ولا مجال للنقاش هنا.

 

ولكن العالمين يدركون أنّ الصراع على حقيبة المال هو العنوان. وأما عمق المشكلة فهو أن «الحزب» لا يريد تسليم شيء من مكاسبه الحالية، لا في الوزارات ولا في المرافق والأجهزة والمؤسسات، ولا يريد أن تُفتَح الملفات النائمة فتُرمى عليه المسؤوليات. وهو سيقاتل لمنع قيام حكومةٍ تستهدفه بتركيبتها وبرنامجها، وتقود إلى إضعافِه وإقصائه عن القرار.


 
 

بالنسبة إلى «الحزب»، هذه المواجهة ليست خياراً بل هي من الحتميات، لأنه لا يمتلك وحده قرار الانسحاب من المعركة في لبنان، ما دام جزءاً من استراتيجية إيران الشاملة، بل يشكّل رأس الحربة فيها على شاطئ المتوسط.

 

إذاً، لن يتراجع «حزب الله» في المواجهة الحالية، بدءاً بعملية تأليف الحكومة، وأيّاً كانت الأكلاف، لأنّ الأمر يتعلق بمصيره. ولكنه يبذل كل جهد للعثور على «الخلطة السحرية» التي تُؤمِّن نجاح المبادرة الفرنسية والحصول على المساعدات الموعودة. فهي المتنفّس الوحيد لطاقم السلطة والمؤسسات للحدّ من الخناق الأميركي.

 

إنها مغامرة خطرة. وقد يتعذّر العثور على هذه «الخلطة». وفي الأثناء، سيدير الأميركيون محرّكات جرافاتهم سريعاً، بدءاً بلوائح العقوبات المتلاحقة. وفي الطريق، لن تنجو المبادرة الفرنسية ولا «أبطال اللعبة» في لبنان، ولا النبض الباقي في المال والمصارف والنقد والاقتصاد، وربما السياسة والأمن.

 

هناك عنتريات كثيرة في المسرحيات الدائرة حالياً على خشبة المسرح، ولكن خلف الستارة عضُّ الأصابع يبلغ الذروة. فمَن سيقول «آخ» أولاً؟