في 14 آذار من العام 1978 اجتاح الجيش الاسرائيلي قسماً من جنوب لبنان ليُنشئ عليه ما عُرف في ما بعد بالشريط الحدودي. هذا الاجتياح تمّ تبريره بأنّه جاء رداً على عملية نفّذها «الفدائيون» داخل فلسطين المحتلة، فيما الحقيقة انّه كان لإختبار مدى التزام الرئيس المصري انور السادات بتوقيع اتفاقية سلام مع اسرائيل. فقبل اشهر معدودة، وتحديداً في 19 تشرين الثاني 1977 كان السادات قد قام بزيارته «الصاعقة» الى القدس، وبعد الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان ببضعة اشهر ايضاً وتحديداً في 17 ايلول 1978، تمّ توقيع معاهدة كمب ديفيد برعاية الرئيس الاميركي جيمي كارتر.
وفي الأمس، وفيما كان اللبنانيون غارقين في الملف الحكومي الصعب والمعقّد، والخشية من سقوط المبادرة الفرنسية، كان الحدث الأهم، والذي سيصعّب مستقبل الوضع في لبنان، يتركّز على حديقة البيت الابيض، حيث تمّ الكشف عن بدء حقبة جديدة في الشرق الاوسط، ترتكز على ولادة حلف اقليمي جديد. فتوقيع اتفاقية السلام بين الامارات والبحرين من جهة واسرائيل من جهة اخرى، سيعني انطلاق قطار التطبيع بين اسرائيل ودول اخرى، والتي ستشكّل في نهاية الأمر محوراً سياسياً وامنياً، وربما عسكرياً، في مواجهة محورين، الأول ايراني والثاني تركي.

 

والاهم، انّ لهذه المحاور الثلاثة خطوط تماس على الساحة اللبنانية. وصحيح انّ التوقيع تزامن مع اطلاق 13 صاروخاً من قطاع غزة على اهداف اسرائيلية، إلّا أنّ الأصح انّ الردّ على ولادة المحور الجديد لن يقتصر فقط على غزة، وهي ايضاً قد لا تنحصر في الردّ الصاروخي، بل ستشمل الردّ الامني والسياسي. لذلك، لا بدّ من ضبط الساحة اللبنانية، ومنعها من التفلّت والشغب. فالمكاسب التي جناها الرئيس الاميركي دونالد ترامب من السلام الاماراتي ـ البحريني ـ الاسرائيلي ليست فقط انتخابية، بل انّ هنالك مصالح كبرى للدولة الاميركية، وهي التي تنظر الى الشرق الاوسط من زاوية منافستها الجيوسياسية مع الصين وروسيا.


 
 

والمعضلة الاميركية تكمن في طريقة جلب القوى السياسية في الشرق الاوسط الى حوار امني ـ اقليمي، يمكن ان يساعد في تحقيق المصالح الاميركية في المنطقة، خصوصاً مع وجود دائم لحاملتي طائرات في المياه المجاورة. ولذلك، صدرت توصية داخل الادارة الاميركية بإلغاء القرار القاضي بالانسحاب الكامل من سوريا، والابقاء على وجود، ولو صغير، عند الحدود السورية ـ العراقية، والاهم، تعبئة الوقت الفاصل عن موعد الانتخابات الرئاسية الاميركية بمزيد من العقوبات على كل من ايران وسوريا و»حزب الله» وحلفائه في لبنان، لإنضاج الظروف الآيلة لتحقيق النتائج الامنية والسياسية المطلوبة.

 

وفيما الحرب في سوريا تستعد لتدشين بدء عقدها الثاني، تصاعد التنافس بين روسيا وايران على الامساك بمفاصل النظام السوري والمواقع الاستراتيجية.

 

وفي لبنان، تسبّب الانفجار في مرفأ بيروت بحدوث زلزال داخلي، مضافاً اليه ازمات سياسية وصحية وفساد مالي وانهيار اقتصادي، وهو ما ترى فيه واشنطن «فرصة» لا بدّ من استثمارها لتحقيق اهدافها. والانفجار الذي دمّر مرفأ بيروت واجزاء من الاحياء السكنية، كشف انّ الحياة في لبنان تغيّرت الى الابد. والبعض يقول، انّ الاسوأ لم يأتِ بعد، خصوصاً مع هذا التصاعد المرعب في اصابات كورونا، والذي يفاقم من هول المأساة التي يعيشها لبنان.

 

على وقع كل ما سبق، تقدّمت باريس، من خلال الرئيس ايمانويل ماكرون، وهي المعنية بالمواجهة مع تركيا، وتحت سقف التنسيق مع واشنطن. كانت الامور تسير وفق انتظام مقبول، ذلك انّ واشنطن، وبخلاف السلام المصري ـ الاسرائيلي واجتياح العام 1978، تريد الآن تبريد خطوط التماس في المنطقة ومن ضمنها لبنان، لإمرار التسوية السلمية بين الامارات والبحرين واسرائيل بأقل مقدار من الشغب، لتعبيد الطريق أمام دخول بلدان عربية اخرى في ركب السلام والتطبيع مع اسرائيل، وبالتالي تأمين الظروف الملائمة لولادة محور عربي ـ اسرائيلي.

 

ومن هذه الزاوية، أمّنت واشنطن مظلّة داعمة وغير منظورة للمبادرة الفرنسية في لبنان، وذلك خلافاً لكل التشكيك والكلام القائل بأنّ واشنطن متحسسة من المبادرة الفرنسية. وخلال زيارته الثانية للبنان، وعند انتهاء حفل الغداء الرسمي في قصر بعبدا، تأهّب رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» محمد رعد للمغادرة، فما كان من احد مساعدي ماكرون إلاّ أن اقترب منه ومعه ورقة سلّمه ايّاها، قائلاً له بأنّها ستجري مناقشتها بعد ساعات خلال لقاء الطاولة المستديرة في قصر الصنوبر.


 
 

أخذ رعد الورقة وهرول في اتجاه مكتبه، حيث تولّى أحد الاشخاص ترجمة بنودها الى اللغة العربية. وبعد اتصال بينه وبين الامين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، حمل رعد جواب الحزب الرسمي وابلغه الى ماكرون: «نحن موافقون على 90% مما هو وارد من نقاط». عندها سأله ماكرون عن الـ10 في المئة التي لا يوافق عليها «حزب الله»، فأجاب رعد: «إنّها تتعلق بنقطتين، الاولى الانتخابات النيابية المبكّرة، والثانية ضرورة شرح معاني التحدث عن «تحقيق شفاف» وما المقصود به فعلاً.

 

وافق ماكرون على تحفظات «حزب الله» فوراً، وفُتحت الطريق امام تسمية مصطفى اديب لرئاسة الحكومة. لكن التواصل الضعيف مع اديب، جعل الثنائي الشيعي في موقع المتوجس، خصوصاً انّ الرئيس نبيه بري اعتاد ان يكون احد طباخي الحكومة.

 

وبخلاف ما ظهر عبر الاعلام، فإنّ بري كان باشر النقاش حول المداورة الشاملة. لكن «حزب الله» كان بدأ يتوجس انطلاقاً من قراءته الاقليمية. فالعقوبات التي ظهرت، بدا انّها كانت تهدف الى عزل «حزب الله» عن حلفائه، اضف الى ذلك التطورات في المنطقة، وخصوصاً حيال التسوية السلمية مع اسرائيل، ما يعني تطويق المحور الايراني وخلق خريطة جيوسياسية جديدة.

 

وخلافاً لما ظهر، فإنّ «حزب الله» هو الذي اتخذ قرار رفض التشكيلة الحكومية، اذا لم تبقَ حقيبة وزارة المال في يد الطائفة الشيعية. فالنقاط الاساسية التي رفعها اديب الى الثنائي الشيعي حيال عناوين الحكومة تضمنت: حكومة من 14 وزيراً، وزراء من خارج الاحزاب، تحقيق المداورة الشاملة وابقاء القوى السياسية بعيدة عن تسمية الوزراء.

 

اشتمّ «حزب الله» «رائحة» الاميركيين في الشروط الموضوعة للحكومة والهدف، هو ابعاده، على واقع المستجدات في المنطقة.

 

ومع انعطافة رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل تحت ضغط التلويح بالعقوبات، اعلن الثنائي الشيعي رفضه التشكيلة الحكومية الجاري وضعها، وتمسّك بحقيبة وزارة المال، في اعتبار انّه يريد تثبيت عرف «المثالثة»، طالما انّه جار تركيب المنطقة مجّدداً ومعها لبنان ايضاً.

 

لكن هجوم «حزب الله» تلقفته باريس، وعملت على امتصاص مفاعيله، فأعلنت عن موافقتها على تمديد مهلة الى 15 يوماً، ولو لبضعة ايام. وفي الوقت نفسه زار اديب القصر الجمهوري من دون ان يحمل معه تشكيلة حكومية.

 

باريس شعرت انّ «حزب الله» متوجس من رعاية فرنسية لإعادة احياء تركيبة مسيحية ـ سنّية. والواضح أنّ موقف رئيس الجمهورية ومعه «التيار الوطني الحر» كان بعيداً عن موقف الثنائي الشيعي للمرة الاولى منذ توقيع اتفاق مار مخايل.

 

وكان واضحاً انّ المشاورات التي اجراها رئيس الجمهورية هدفت الى التسلّح بموقف الغالبية النيابية التي تتمسّك بالمداورة الشاملة. لا بل اكثر فإن الحسابات الموضوعة لا تستبعد أن يوقّع عون التشكيلة الحكومية اذا قدّمها اديب، ولو مع استمرار رفض الثنائي الشيعي لها.

 

لكن باريس حتى الساعة لا تبدو في وارد الذهاب الى نزاع مفتوح مع «حزب الله»، انسجاماً مع اوضاع المنطقة والنزاع مع تركيا والتقاطع الايراني ـ الفرنسي، اضافة الى ضرورة تبريد الساحات لا اشعالها، توازياً مع مسار التطبيع الحاصل مع اسرائيل. لذلك شهدت السفارة الفرنسية في الامس، اتصالات ناشطة بقيت بعيدة من التداول الاعلامي. فالحسابات ما بين العام 1978 واليوم مختلفة، مع تبدّل المقاعد بين من يسعى الى التبريد ومن تلائمه الحماوة وفق الحسابات المتناقضة الموضوعة.

 

في الآونة الأخيرة كتب وزير الخارجية الاردني الاسبق مروان المعشر عن الواقع اللبناني قائلاً: «قلبي يدمي مرة اخرى على لبنان بعد ان اوصلته القوى السياسية والطائفية الى شفير الهاوية بسبب اساءة استعمال التعددية، ففي الوقت الذي ساهمت التعددية في التطوير والتجديد الثقافي وجعله منارة للفكر الحر ومقراً لحركة مسرحية وفنية وثقافية عالية المستوى ومركزاً للتأليف والنشر، أصرّت احزابه السياسية والطائفية على ممارسة الفساد والسرقة، ما جرّد شعبه من لقمة عيشه».