إنّ كفّ يد العابثين بدار الفتوى هو الطريق الحصري لإعادة الثقة بالإفتاء كمؤسسة، وبمفتي الجمهورية كمرجعية، لأن أهل السنّة إذا فقدوا علاقتهم بمؤسستهم الأم وبمرجعيتهم السند لن تقوم لهم قائمة مهما كان سياسيوها أثرياء أو دُهاة. فشرعيتهم تأتي من الناس، والناس اليوم ترفض هيمنتهم وتنزع الشرعية عن ممارساتهم المسيئة لخاصة المسلمين وعامّتهم.
 
كانت الرسالة التي بعثها شيخ قرّاء بيروت وخطيب المسجد العمري الشيخ محمود احمد عكاوي إلى "السيد فؤاد السنيورة ومن معه" بليغة وعلى قاعدة ما قلّ ودلّ: "كُف يدك عن دار الفتوى ومؤسساتنا الدينية".
 
 
بهذا الوضوح والمباشرة والغضب والرفض، كان الخطاب الذي أراده الشيخ عكاوي معبّراً عن لسان حال الأغلبية الساحقة من علماء وأهل دار الفتوى، بعد الدّور السلبي الفاضح الذي يقوم به رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة في التدخّل السافر في شؤون الدار، من غير صفة قانونية مباشرة ومن دون الاعتبار لمقام مفتي الجمهورية، الذي يتصرّف السنيورة على أنّه مجرّد منصبٍ شكليّ، وأنّ باستطاعته مدّ يده ساعة يشاء إلى المؤسّسة الدينية الأمّ، ليتحكّم بأوقافها ومرافقها وتعييناتها الإدارية والدينية على حدٍّ سواء.
 
 
ضاق المشايخ في دار الفتوى ذرعاً بهذا الأسلوب الذي خرّب دار الفتوى وجعلها مسرحاً للعبث السياسي، وعطّل دورها في حماية الهوية الإسلامية والقيام بالتنمية الوقفية، ونموذج طرابلس وصيدا كافيان للدلالة على حجم التخريب الحاصل في الوقف الإسلامي، فنطق باسمهم الشيخ عكّاوي ليحدِّد المطلوب: تحرير الدار من الهيمنة السياسية التي تطبق الخناق عليها.
 
 
إتصل الرئيس السنيورة بالشيخ عكّاوي طالباً منه سحب كلامه، وحَذْفَ المنشور على صفحته (فيسبوك)، فرفض، مؤكداً ضرورة كفّ يد المتـّصل عن التدخل في شؤن دار الفتوى، ليحظى هذا الموقف بتعاطفٍ واسع النطاق في الوسطين الديني والشعبي، وليتلفت الرأي العام للتساؤل عن حقيقة ما يجري.
 
الاعتراض يتوسّع
 
لم يكن صوت الشيخ عكّاوي الوحيد الذي صدَع بالاعتراض على الضغط السلطوي الذي يمارسه تجمّع يضمّ الرئيسين سعد الحريري وفؤاد السنيورة والوزير السابق رشيد درباس، بل توجّه الشيخ خالد عبد الفتاح (ابن البقاع)، الذي سأل الشيخ الشعار: لماذا تريد التمديد ؟؟؟
 
 
 
 هل هناك مشروع ضخم عظيم بدأت بتنفيذه وتريد إنهاءه في سنة ممددة جديدة ؟!
 
هل إذا مُدد لك مرة ثالثة سينتهي الأمر أم أنك ستسعى للتمديد مرة رابعة ؟ ومرة خامسة ؟؟ 
 
 هل تريد تسجيل هدف في مرمى خصومك على حساب المرسوم رقم ١٨ وتعديلاته؟
 
 هل تريد أن تؤكد للناس أن زماننا لا فرق فيه بين العلماء والحكام فكلهم يريدون العرش للأبد؟
 
 هل تريد أن تقول للناس إنّ القوانين عندنا هي كالأصنام التي كانت قريش تأكلها اذا جاعت؟
 
 
 هل تريد أن تظلّ مفتياً سنةً خلْف سنةٍ حتى تموت مفتياً ويكون لك جنازة مهيبة؟ 
 
 هل تريد أن تقول للناس إنّ الذي نقوله على المنابر عن الزهد في المناصب، إنما هو كلام نقوله، ولا أثر له على الواقع؟
 
هل تحب هذه التجمعات التي تقف امام بيتك لتنعتك بالارتهان السياسي لكرامي ثم للميقاتي ثم للحريري؟
 
 
ومن صيدا، سأل الشيخ صلاح الدين أرقدان، برمزيته المعروفة: "سؤالاً غير بريء : أليس من احترام الذات والأكرم له أن يعلن الشيخ (الشعار) زهدَه في التمديد؟! فيعتزل في بيته ويبدأ  بتلاوة كتاب ربّه واستغفارَه على تقصيره في حقّ الأمانة التي حملها وكان {ظلوما جهولا} كما وصف القرآن العلاقة بين الإنسان والأمانة؟!
 
 
وختم أرقدان بالقول: مهما ظنّ هو أو غيره في نفسه من عظمة العلم وبهرج المنصب أليس هذا أكرم له وأحسن ظنا بالله؟! وأقرب إلى الحرص على مصالح المسلمين؟!
 
 
في طرابلس يعترض معظم أعضاء المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى على التمديد، وعلى رأسهم الدكتور عبد الإله ميقاتي والشيخ أمير رعد والدكتور أحمد أمين، بينما لا يجد الشعار من يدافع عنه سوى بضعة موظفين لا يتعدّا عددُهم أصابع اليد الواحدة.
 
 
عضو المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى السابق المحامي همام زيادة سأل: هل من المقبول  بأن تحدث محاولات مستميتة للتمديد لسماحة مفتي طرابلس هذا الانقسام العامودي  والأفقي في صفوف الطائفة السنية  دون أن يتحرك الغيارى لوقف هذا الوضع المأساوي؟
 
وأضاف: إن الله ليسأل عن صحبة ساعة ومن هذا المنطلق فإنني أتوجه إلى سماحة مفتي طرابلس الشيخ مالك الشعار متمنياً عليه  أن لا يكون سبباً في حدوث هذا الإنقسام والتصدع الخطيرين في صفوف الطائفة السنية والجسد السني  ويعلن عن عدم رغبته بالتمديد له للمرة الثالثة، مع إعتقاده بصوابية هذا الإجراء وأنه سيجلب  الخير، إذ أنه يعلم أنّ درء المفاسد مقدم على جلب المنافع وفقاً للقاعدة الفقهية الكلية.
 
 
تدخـّل السنيورة: هل تحسّن وضع الأوقاف والدار؟
 
منذ سنوات يقوم الرئيس السنيورة بالتدخل في شؤون دار الفتوى تحت عنوان الإصلاح المالي والإداري والوقفي. وتجلّى هذا التدخل في المعركة التي خاضها لدفع مفتي الجمهورية السابق الشيخ محمد رشيد قباني إلى الاستقالة، ثم وضع الخطط المالية لضمان منع الهدر وضبط مسارب الإنفاق، وتحسين أداء الوقف.
 
لا نعلم تحديداً كيف انتهت المعركة في شقّها المالي بعد استقالة المفتي قباني، ولكننا نعلم يقيناً أنّ أوضاع الأوقاف لا تزال تتدهور وأملاكُها تتقلّص، وخاصة في صيدا التي تعاني من الهيمنة السياسية للسنيورة وللنائب بهية الحريري عليها، مع تولي المفتي سليم سوسان منصبي الإفتاء ورئاسة دائرة الأوقاف خلافاً للقانون، والولوج في هذا الملف له شجون لا تنتهي.
 
أمّا في طرابلس، فإنّ الكارثة أعمّ والتصرّف بالأوقاف وفق الأهواء ومنع التطوير والتحديث كانت المهمة الأولى للمفتي الشعار، ولهذا ازداد حال الأوقاف سوءاً منذ أكثر من عشر سنوات، وها نحن اليوم نقف أمام عجز شبه تام عن تلبية متطلبات الجسم الديني، في حين أنّ الثروة الشخصية للمفتي الشعار ما فتأت تتوسع، وهذا مستغرب: كيف ينجح في تكبير ثروته الشخصية، وهي يفترض أنها كانت بسيطة فصارت اليوم مركّبة، وكيف يفشل في تطوير الثروة الوقفية بطرابلس وهي في الأساس من أغنى الأوقاف في لبنان؟
 
التدخـّلُ المستفزّ
 
الواقع أن تدخّل الرئيس السنيورة ليس جديداً، لكنه هذه المرّة فاقع ومستفز. ذلك أنّه دخل على خطّ محاولة فرض التمديد للمفتي الشعار المنتهية ولايته آخر شهر أيار الجاري، وكسر قرار مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان القاضي بالتولي التلقائي لمهام مفتي طرابلس من قبل أمين الفتوى الشيخ محمد إمام، خلافاً إجماع المدينة بقياداتها وناسها.
 
ولدى المتابعة يتّضح أن "اللوبي" الداعم لكسر قرار المفتي دريان وللتمديد طويل الأمد للشعار، يتألّف بشكلٍ أساسي من الوزير السابق رشيد درباس، ثم لتنضمّ النائبة ديما جمالي لفرقة الدعاية الزرقاء للمفتي الشعار، وبعض رجال الأعمال، مدعومين من الرئيسين الحريري والسنيورة.
 
 
كيف يكون درباس من صنّاع الإفتاء؟
 
السؤال هنا: 
 
كيف يُعقل أن يكون الوزير السابق درباس أحد ثلاثة أو أربعة "طبّاخين" أساسيين لملف إفتاء طرابلس، وهو لا يعرف للتّدين طريقاً ولا للالتزام الديني سبيلاً، وهو خارج هذه الدائرة كلياً، من دون أن يكون لكلامنا أيّ صفة تكفيرية، بل نحن أمام توصيف حالة. فضلاً عن ملفاته الملتبسة في وزارة الشؤون الاجتماعية، واستغلاله واستثماره الشخصي لجزيرة عبد الوهاب.. واللائحة تطول.
بأيّ صفة يتدخّل رشيد درباس للتمديد للشيخ الشعار؟ وما هي صفتُه الاعتباريّة، وماذا لديه ليقدّمه في هذا المجال سوى التمديد لصديقه الذي أمضى ما يزيد عن العشر سنوات عجاف كانت كافية لتدمير الأوقاف وعزل الدار عن المسلمين؟ وعلى أيّ أساس يتجمّع الحريري والسنيورة ودرباس في مسعى التمديد، بعيداً عن الجسم الديني لكسر قرار مفتي الجمهورية؟
 
 
 
جمالي: تريد مفتياً على قياسها
 
 
وليكتمل "النقل بالزعرور" أعلنت النائبة ديما جمالي دعمها للمفتي الشعار، وغرّدت على حسابها على تويتر:"عندما نتكلم عن الأبعاد الدينية والوطنية لمن يملأ مقام الإفتاء في طرابلس والشمال، بعيداً عن الحسابات السياسية سيكون الجواب المفتي مالك الشعار، الذي خدم بكل ايمان ووطنية، ووقف إلى جانب المؤمنين، وكان السند لهم. واليوم، نقف معه ليبقى الضمانة، ضمانة الاستقرار للشمال، ومنه الى كل لبنان".
 
 
الغريب أنّ ديما جمالي التي رفعت شعار الزواج المدني وتغيير الأحوال الشخصية للمسلمين، هي التي تريد أن تحدّد مواصفات الشخص الصالح للشأن الديني. وهي تدّعي أن الشيخ الشعار "ضمانة" للاستقرار في الشمال.
 
 
فات السيدة جمالي أن "سماحته" كان شاهد الزور على جولات القتال الثلاث والعشرون في طرابلس، وكان الغائبَ الأكبر عن مناصرتها، وهو الذي استقبل وزير الدفاع العوني السابق الياس بوصعب عشية حملته والعونيين على المدينة في شهر رمضان الفائت إثر عملية عبد الرحمن المبسوط، ولم يكتف باستقباله، بل كال له المديح حتى سال على درج دار الفتوى..
 
لكنّ تغريدة جمالي الداعمة تحوّلت إلى منصّة لاستهداف كلّ الداعمين للتمديد وعكست المزاج العام الرافض له والذي يحمل في طياته إهانة وإستهانة بقرارات مفتي الجمهورية اللبنانية. 
 
ونظراً لحجم لهذه التعليقات الرافضة حذفت جمالي هذه التغريدة، وهذا سيكون النموذج لتعامل الناس مع الشعار ومؤيديه ي حال وقوع التمديد: مقاطعة ورفض ومواجهة. 
 
 
 
تسلّط سياسي وتخلٍّ عمليّ
 
لا يمتلك الرئيسان سعد الحريري وفؤاد السنيورة والوزير السابق رشيد درباس، أيّ رؤية لواقع المؤسّسة الدينية، بل ينظرون للمسألة على أنّها مجرّد لعبة مصالح وتوزيع مغانم ومشاركة في النفوذ، ولذلك، فإنّهم يمارسون التسلُّط المجرّد عن أيّ المصلحة الفعلية لدار الفتوى وللمسلمين في طرابلس والشمال ولبنان، بل إنهم تخلّوا عملياً عن مسؤولياتهم في مساندة هذه المؤسّسة التي تئنّ بسبب ممارساتهم وعَبَثهم فيها.
 
لا يستمع هؤلاء إلى العقلاء الذين يرفضون ما يجري، ويحذّرون من تداعياته الخطرة على مستقبل دار الفتوى والمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، وصلاحياته التقريرية والتشريعية.. ويصرّون على استفزاز مشاعر الأغلبية الساحقة الرافضة لكسر قرار مفتي الجمهورية وعلى تطبيق القانون والكفّ عن التمديد للفراغ المتجسّد بوجود الشيخ الشعار في منصب الإفتاء.. 
 
أين دور رئيس الحكومة؟
 
 
يبقى أنّ سؤالاً هاماً يطرح نفسه: ما هو دور رئيس الحكومة حسان دياب مما يجري؟ وهل يرضى أن يتصرّف سعد الحريري وكأنه هو رئيس الحكومة، على المستوى السنـّي، بينما هو لا يقوى على شيء على المستوى الوطني؟
منطقياً، وإذا أراد الرئيس حسان دياب تحقيق حضور الحدّ الأدنى سنيّاً، فلا يمكنه أن يتجاهل ما يجري في ملفّ إفتاء طرابلس باعتباره رئيساً للحكومة، وهو يحتاج مدخلاً منطقياً للدخول في إطار الشرعية السنية، وليس ثمة مدخل أهمّ من الحفاظ على مقوّمات دار الفتوى، على أن يكون تدخّله لتطبيق القانون، وليس لإضافة عنصر جديد من التدخلات السلبية.
 
 
 
صلاة العيد.. والجماهير "الغفيرة"
 
 
أدّى المفتي الشعار صلاة العيد في المسجد المنصوري الكبير، شبه الفارغ من المصلّين، وكان في استقباله مواطنون حضّروا له البيض والبندورة، وحالت القوى الأمنية دون قيامهم برميها عليه، واستمع إلى كلامٍ قاس سقط على جلمود صخر وكأنه لم يستمع شيئاً.. وكأنّ "الدنيا تمطر" أدعية ولعنات صبّها المعترضون خارج المسجد المنصوري على من يفترض أنّه مفتي المدينة.
 
 
تباهى الشيخ الشعار بأنّه حصّل بعض المساعدات (المشكورة) من سفارتي المملكة العربية السعودية والإمارات، محاولاً الإيحاء بأن هذه المبادرة دعم لشخصه، وهذا أمرٌ يصعب تصديقُه بسبب التحفّظ التقليدي لهاتين السفارتين تجاه الشؤون الداخلية اللبنانية. ولكن السؤال الأكبر: هل بات دور دار الفتوى تلقّي المساعدات، بدل أن تكون مداخيلها هي المصدر للتكافل الاجتماعي، وهذا هو دور الأوقاف عندما تكون إدارتها صالحة وكفوءة وبعيدة عن الفساد.. أما حالنا اليوم، فإنّ الوصف الأدقّ له هو تضييع الأمانة وتوسيد الأمر إلى غير أهله. ولهذا يجب كفّ يد الرئيسين الحريري والسنيورة ومن تحتهما رشيد درباس وبقية أعضاء هذا المحفل غير الظاهرين، والذين تظهر بصماتهم من حجم الفساد المنتشر في شتّى مفاصل دار الفتوى.
 
 
كفُّ اليد عن دار الفتوى بات اليوم مطلباً ضرورياً لإنقاذها ولإنقاذ مستقبل المسلمين، إلاّ إذا كان مقصد معسكر التمديد للشعار إحداث الوقيعة والانقسام تمهيداً لإدخال مشاريع التغيير في قوانين الأحوال الشخصية، كما تنادي النائبة ديما جمالي وزميلتها رولا الطبش، وقبلها الرئيس سعد الحريري لإنهاء الهوية الإسلامية وإخراج أهل السنّة من المعادلة الوطنية والعربية.
 
إنّ كفّ يد العابثين بدار الفتوى هو الطريق الحصري لإعادة الثقة بالإفتاء كمؤسسة، وبمفتي الجمهورية كمرجعية، لأن أهل السنّة إذا فقدوا علاقتهم بمؤسستهم الأم
 
وبمرجعيتهم السند لن تقوم لهم قائمة مهما كان سياسيوها أثرياء أو دُهاة. فشرعيتهم تأتي من الناس، والناس اليوم ترفض هيمنتهم وتنزع الشرعية عن ممارساتهم المسيئة لخاصة المسلمين وعامّتهم.