في بيروت، جدلٌ بيزنطي حول الخطط والأرقام والخسائر والمسؤوليات، فيما أسوار الدولة تهتزّ بعنف، وهي على وشك السقوط بالزلازل الآتية. وبالتأكيد، هذا المشهد اللبناني مثير للسخرية لدى «أصحاب القرار» الكبار، الذين يضبطون الساعات والخطوات على مستوى خريطة الشرق الأوسط بكاملها.

قدَّم "حزب الله" تنازلات أولية عندما وافق على تلقّي مساعدة مالية من صندوق النقد الدولي. فهو اشترط عدم تقديم أي ثمن سياسي مقابل المساعدة. ومنطقي أن يتوقع "الحزب" ضغوطاً سياسية تحت وطأة الأزمة المالية، كما يحدث عادةً للدول المأزومة. لكن الصندوق، بالتأكيد، لا يعتبر نفسه معنياً بمفهوم "الحزب"، ولا مضطراً إلى التزام أي شرط.
 
الصندوق في موقع القوي الذي يحتاج إليه الجميع، لا من أجل الـ4 مليارات أو الـ5 من الدولارات "الطازجة" المنتظرة منه، بل لكونه المفتاح إلى مليارات أخرى من جهات أخرى. ولذلك، إذا لم تكن الحكومة اللبنانية مستعدة لتلبية شروطه، بما فيها تلك التي تحمل أبعاداً سياسية، فلتطلب وقف المفاوضات.

 

طبعاً، إذا قرّرت حكومة دياب وقف المفاوضات فسيكون ذلك بطلب من "حزب الله". وفي هذه الحال، ستقع في مأزق خطر. فليس أمراً بسيطاً طلب دعم الصندوق ثم التنكّر لشروطه. وكان من الأفضل للحكومة ألّا "تتحرَّش" بالصندوق أساساً وتطلب دعمه.

 

أما إذا قرّرت الحكومة أن تتجاوب مع شروط الصندوق، فليس مؤكّداً أنّ ذلك سيكون بموافقة "الحزب". ويمكن السؤال حينذاك: هل خسر "الحزب" سيطرته على قرار الحكومة، أي: هل فعلت ذلك على رغم اعتراضه؟

 

وتالياً، مَن هي القوى القادرة على معاكسة "الحزب" من داخل الحكومة، في أشدّ الظروف حراجة، خصوصاً أنّ هذه التركيبة الحكومية لا تضمّ سوى حلفاء لـ"الحزب"؟

 

يقود ذلك إلى طرح سؤال أكبر: هل يمكن أن تقود الضغوط الأميركية والأوروبية والعربية المتزايدة، والتي ستَنصبُّ على إيران و"حزب الله" في المرحلة المقبلة، إلى تباعد المصالح بين "حزب الله" وحلفائه في السلطة، وفي مقدّمهم "التيار الوطني الحرّ" ومن خلاله رئيس الجمهورية ميشال عون؟

 

ففشل المفاوضات مع الصندوق، من دون الرغبة في استرداد الموارد الضائعة والأموال المنهوبة، تعني الجوع وذهاب لبنان إلى اهتراء كامل وشامل، وإلى انفجار شعبي مريع في الشارع وفوضى تقود إلى انهيار العهد والحكومة معاً.

 

إذاً، هل سيتفرّج عون على عهده ينهار ولا يقْدِم على أي خطة في اتجاه الإصلاح؟ وتالياً، هل سيقبل الرئيس حسّان دياب بأن تتحوّل "حكومة الإنقاذ" إلى "حكومة الأنقاض" أم سيفكّ ارتباطها ويعلن "استقلاله" هو وبعض الوزراء غير المحسوبين مباشرة على القوى السياسية، فتنفرط الحكومة؟

 

في أي حال، المفاوضات مع الصندوق واضح أنّها بطيئة جداً. و"ذكاء" الجانب اللبناني يساهم في الإبطاء: لو سار فريق السلطة الحالي بإصلاحات "سيدر" عام 2018 لما انهار الوضع. ولو تعاطى جدّياً مع مطالب انتفاضة 17 تشرين الأول، زمن الحكومة الحريرية، لكان حجم الكارثة معقولاً. واليوم، لو صاغ خطة إصلاح حقيقية، لكان موقف لبنان أقوى في المفاوضات، ولكان ممكناً تجنُّب الأسوأ.

 

وما يطلق الهواجس خصوصاً، هو الاتجاه القاسي الذي يسلكه الاشتباك الأميركي- الإيراني على رقعة الشرق الأوسط، من العراق إلى سوريا فلبنان، والذي ستكون له محطتان قريباً، في لبنان وسوريا:

 

1- مشروع القانون الذي اقترحه، الأسبوع الفائت، السيناتور تيد كروز، النائب عن ولاية تكساس، والذي قد يوقف أكثر من 100 مليون دولار، تذهب سنوياً إلى لبنان، بداعي أنّ هذه الأموال ربما تقود إلى دعم "حزب الله" الذي يسيطر على السلطة.

 

ووفق المشروع، سيتمّ إيقاف المساعدات حتى يعلن الحكم في لبنان أنّ "حزب الله" ليس جزءاً من الحكومة، ولا نفوذ له في السلطة. ويضغط الجمهوريون ليحظى المشروع بدعم النواب الديمقراطيين أيضاً.

 

وروحية المشروع، هي أنّ لبنان هو "السقف" الذي يوفّر لـ"حزب الله" الحماية، بغطاء من الفئات اللبنانية كلها. وإذا لم ينفكّ هذا الترابط بين "الحزب" ولبنان الرسمي، فستكون واشنطن مضطرة إلى استهداف لبنان بأسره من أجل التضييق على "الحزب" ومصادر تمويله.

 

2- بالتزامن، هناك قانون يتعلق بسوريا، قيد التطبيق بدءاً من مطلع حزيران المقبل، ويحظى بدعم الجمهوريين والديموقراطيين على السواء، هو المسمّى "قانون قيصر" لمعاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية خلال الحرب، أي نظام الرئيس بشّار الأسد وداعميه الروس والإيرانيين وحلفائهم.

 

هذا القانون ستكون له انعكاسات كبيرة على الوضع في سوريا وتوازنات القوة هناك، حيث تبرز ملامح خلافٍ روسي- إيراني، وانحياز من الأسد إلى طهران، وانزعاج حادّ من جانب موسكو.

 

ويمضي الإسرائيليون في تسديد ضربات للأهداف الإيرانية و"حزب الله" هناك، بتغطية واضحة من روسيا، ما يمكن أن يؤدي عملياً إلى إضعاف حضور إيران وحلفائها، وتالياً موقع سوريا كجسرٍ يوصل طهران إلى لبنان وشاطئ المتوسط والحدود مع إسرائيل.

 

وسيقود هذا الضغط إلى إحداث مزيد من التضعضع في نفوذ الأسد، خصوصاً مع تنامي الأزمة الاجتماعية والتدهور المتسارع في سعر صرف الليرة السورية، وتسليط المجتمع الدولي أضواء على عمليات التهريب الواقعة على المعابر الحدودية الشرعية وغير الشرعية مع لبنان، باعتبارها جزءاً من مأزق الفساد المالي والإداري والفلتان الأمني.

 

بالنسبة إلى واشنطن، قطع المعابر الشرعية سيقود إلى حلّ مشكلات الاقتصاد، كما الأمن والسياسة. لذلك، يُطرح توسيع دور "اليونيفيل" ليشمل الحدود شرقاً وشمالاً أيضاً. ومع أنّ روسيا والصين جاهزتان دائمان لـ"الفيتو" ضدّ أي قرار لمجلس الأمن في هذا الاتجاه، فإنّ مجرد التلويح به يشكّل ورقة للضغط أو للمساومة مع الدولتين.

 

إذاً، الأميركيون يخوضون معركتهم في الشرق الأوسط بشكل كاسحة ألغام: صندوق النقد يفاوض في لبنان، الكونغرس يحرّك التشريعات في اتجاه لبنان وسوريا، والتضييق على معابر التمويل فلا تبقى سالكة وآمنة.

 

لكنّ الأهم، في لبنان، هو انفجار الشارع الجائع الذي لا ناقة له ولا جمل في كل مجريات الصراع الدولي والإقليمي. وهذا الانفجار قد يبدّل الكثير من المعطيات. لكن المثير هو ما بدأ يُسمَع في بعض الأوساط الغربية، ومفاده أنّ نار الجوع ستندلع أيضاً في سوريا هذه المرّة، وأنّها لن توفّر حتى البيئات المحسوبة ضمن معسكر الولاء للأسد. فليستعدّ الجميع لشدّ الأحزمة.