في اليوم الذي سبق عملية التأليف، كان الرئيس سعد الحريري يغرِّد منشرحاً: يُغرِّد على «تويتر»... ويغرِّد خارج السرب. هو يشعر بأنه تخلَّص من شركائه، فيما يَظنّون هم أنهم الذين تخلّصوا منه. واليوم، على الحريري والشركاء جميعاً ودياب أن يتذكروا مقولة «مَن يَضحك كثيراً هو مَن يَضحك أخيراً».
 

في تغريدته أمس، كشف الحريري بوضوح لماذا لم يتحمّس لتصريف الأعمال. فالأمر، كما أوحى، لم يكن تلكؤاً عن الواجب الدستوري، بل هو محاولة لدفع «الآخرين» إلى الإسراع في تأليف حكومة جديدة، تستجيب لمطالب الانتفاضة، فتنتفي الحاجة إلى المرحلة الاضطرارية والموقتة، أي تصريف الأعمال.

 

وفق العارفين، كلامه يؤكد المعلومات التي تردّدت في الأيام الأولى من استقالته التي تمَّت بغير رضى الشركاء، ومفادها أنّ بعض الشركاء كانوا يريدون الإبقاء على وضعية تصريف أعمال طويلة، أي وضعية رمادية، لسببين:

 

1- لأنهم بذلك يستطيعون «إجبار» الحريري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط و«القوات اللبنانية» على البقاء داخل الشراكة، ويحصلون منهم على التغطية التي يحتاجون إليها داخلياً وخارجياً، ريثما تطرأ معطيات جديدة على المشهد تسمح باتخاذ القرار بتشكيل حكومة جديدة.

 

2- لأنهم يريدون تحميل الحريري مسؤولية أساسية عن الوضع الكارثي الذي وصل إليه البلد مالياً واقتصادياً، أي يريدونه أن يبقى في مكانه، فلا يخرج من «صفقة 2016 ويغسل يديه من الأخطاء والخطايا ويختبئ وراء الانتفاضة المناهضة للفساد والفاسدين.

 

أما الآن فقد أعلن الدكتور حسّان دياب حكومته، وفي لحظة كان يسود فيها الاعتقاد في «بيت الوسط» أنّ الأزمة الحكومية ستستمر لفترة طويلة.

 

كان الحريري يعتقد أنّ الشركاء يريدونه في السراي الآن أكثر من أي يوم مضى. وهو يمتلك الأدلة إلى ذلك. وللتذكير، لم تقُلْ المرجعية الدينية للسُنَّة كلمتها في الرئيس المكلّف، لا دعماً ولا اعتراضاً، بعدما أعلنت صراحة في وقت سابق أنّ الحريري هو مرشحها.

 

وفي أي حال، يقول العارفون إنّ «الثنائي الشيعي» لم يكن ليتخلّى عن الحريري إلا بعدما بلغ «عناده» درجة عالية في التمسّك بحكومة من المستقلين. فالحريري في النهاية لم يقبل بأن يقوم بما فعله دياب، أي بأن تأتي تسمية وزرائه من جانب القوى السياسية، ومن لون واحد.

 

ولكن هذا يستدعي السؤال: ولكن الحريري نفسه كان دائماً جزءاً من تركيبة السلطة «المرتاحة على وضعها» منذ بداية العهد، فلماذا قرر مشاكستها إذاً؟

 

بالنسبة إلى البعض، كان الحريري مُرغَماً على الخروج من السراي، لا بطل. والدليل هو أنّ المجال تُرِك له لكي يخرج من الصفقة، في خريف 2017، فاعترض بقوة وعاد إلى قواعده سالماً. وهو ربما كان يفضّل اليوم أن يعود، لولا أنّ الضغط الدولي والعربي وانتفاضة الشارع يدفعانه إلى تغيير التموضع.

 

لكن هناك وجهة نظر أخرى تقول: صحيح أنّ الحريري انغمس تماماً في شراكة السلطة طوال السنوات الثلاث الأولى من العهد، ولكن تبيَّن أنه مستعدّ للخروج منها حالما تتاح له الظروف. وها هو اليوم يتمسك بحكومة المستقلين لمجرد أن هناك ضغوطاً دولية حقيقية في هذا الاتجاه.

 

لقد كان الحريري دائماً الحلقة الأضعف في أي محاولة لفرط تسوية 2016. فالرئيس ميشال عون وثيق التحالف مع «حزب الله». والرئيس نبيه بري يبقى شريك «الحزب» في قيادة الطائفة. لذلك، في الدرجة الأولى، عملت القوى الدولية والعربية على انتزاع الحريري من التركيبة. واليوم، يأتي خروجه منها وكأنه الهدف الذي تأخَّر أكثر من عامين عن موعده.

 

وللمفارقة، جاءت استقالة الحريري من الحكومة، في نهاية تشرين الأول الفائت، متزامنة مع الذكرى الثانية لاستقالته الأولى، الاضطرارية، في الرياض في 4 تشرين الثاني 2017.

 

آنذاك، لم تكن تلك ارادته. كما أنّ الموقف الفرنسي لم يكن ناضجاً لدفعه إلى الاستقالة. وفي عبارة أخرى، لم تكن إدارة الرئيس دونالد ترامب، الآتية حديثاً، قد بلغت الذروة في عملية تقليص النفوذ الإيراني في الشرق الاوسط.

 

كان السعوديون هم الأكثر حماسة لخروج الحريري، وكانوا يحظون بدعم واشنطن. لكن حدود الضغط توقفت عند استقالة الرجل وظهور ملامح اهتزاز في الاستقرار السياسي والاقتصادي والمالي في لبنان، فجاءت وساطة الرئيس ايمانويل ماكرون حاسمة لإعادة الأمور إلى نصابها.

 

آنذاك، وعد الحريري بحلِّ وسط: أن «يتغيَّر» في مرحلة ما بعد الاستقالة، فيتبدل نهج السلطة ويستعيد التوازن السياسي فلا يبقى القرار راجحاً لمصلحة المحور الإيراني.

 

لكن الرجل لم يتبدل إطلاقاً، بل أقنع القوى العربية والدولية بأنّ للبنان خصوصياته، وأن لا مجال للحد من نفوذ إيران في لبنان ما دامت قوية وقادرة على التمدُّد في الشرق الأوسط، أي أنّ إضعاف نفوذ «حزب الله» يبدأ في إيران لا في لبنان.

 

هذه النظرة بقي الفرنسيون مقتنعين بها دائماً، وحتى السعوديون تقبّلوها على مضض. لكن الرسائل الأميركية إلى لبنان بقيت عند الإصرار: على لبنان أن يحافظ على حياده خارج النفوذ الإيراني. واستدعى ذلك أن يضغط الأميركيون على ماكرون فيقطع حنفية الدعم المالي الذي يوفّر لتركيبة السلطة في لبنان استمرارها. وتوقفت تماماً كل أنواع الدعم العربي والدولي، بدءاً بالمساعدات المقررة في مؤتمر «سيدر» عام 2018، ولم يبقَ منها إلا تلك المتعلقة بالقوى العسكرية والأمنية. وحذّر الأميركيون من أنّ التزام لبنان جانب التحالف مع إيران سيجعله مهدَّداً بالعقوبات كلياً.

 

أدركت قوى السلطة أنها مقبلة على الهاوية. وقبيل انتفاضة 17 تشرين الأول «شغّلت» الحريري على خطوط أصدقائه الفرنسيين والعرب لعلّ تجاوز الضغط الأميركي ممكن، فتأتي بعض الملايين إلى لبنان، وتسمح له بمزيد من كسب الوقت.

 

زار الحريري ماكرون وعاد خائباً، ونظّم رحلة حافلة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، تمَّ خلالها التسويق لمساعدة أو وديعة إماراتية في مصرف لبنان، لكن سرعان ما ظهر أنّ لبنان يلاحق السراب ما لم يلتزم بالمطلوب.

 

ومن سخريات القدر أنّ القوى السياسية التي أقامت تركيبة السلطة على الفساد واستباحة المال العام وأوصلت البلد إلى الانهيار هي نفسها المضطرّة إلى طلب المساعدات والرضوخ للمطالب الدولية. ولذلك، عليها أن تبادر هي إلى التزام المطالب الخارجية لئلا يصل الجميع إلى الأسوأ.

 

هذه المعطيات يعرفها الحريري تماماً. ولذلك هو اعتقد أنه يستطيع أن «يُمَزمِز» خارج السلطة لفترة معينة، ثم «يترجّونه» يوماً ليعود. ولكن، هل سيتاح للحريري ذلك؟ هل ستحظى حكومة دياب بالثقة، بثقة المجلس النيابي أولاً، وبثقة الشارع المنتفض، والأهم بثقة المجتمعَين الدولي والعربي؟

 

إذا حصل ذلك، فسيكون الحريري «في إجازة» عن مسرح السلطة حالياً، في انتظار إمرار المرحلة على الأقل. وهذه المرحلة قد تشهد انتخابات نيابية مبكرة تقلب المعادلات السياسية كلها في الداخل. في انتظار الردود على حكومة دياب، ستكون الأمور مرهونة بأوقاتها.