إما أن ينتصر الثوار أو ينتصر صولجان قاسم سليماني وأحزابه وميليشياته. وهذا، كما يبدو وكما هو واقع، لن يكون، ما دام في النجف والناصرية والبصرة وبغداد والموصل وتكريت والرمادي والفلوجة شعبٌ عراقي متحرر من الخرافة ومن الطائفية والعنصرية.
 

من أهم وأشرف وأنجح إنجازات ثورة تشرين أنها رسمت حدا فاصلا بالقلم الأحمر العريض بين عراقين اثنين. عراق أبيض عاقل وعادل ونزيه أصحابُه بالملايين لا يريدون سوى الحرية والأمن والعيش الكريم. وعراق آخر مغلق أسود مُسوّر بجدران الإسمنت والحديد والنار، يسكنه رئيس جمهورية ورئيس وزراء ووزراء ونواب ورؤساء كتل وقادة أحزاب يمارسون السرقة بالدين والخرافة والخديعة والقتل والاختطاف، ورجالُ دين يباركون فسادهم، وقضاءٌ وهيئاتُ نزاهة تحميهم وتتستر على فضائحهم، ومفوضية انتخاب تفصّل لهم ديمقراطيتهم المغشوشة، وسماسرة ومصارف تعاونهم على تهريب الملايين المنهوبة إلى الخارج، وبنك مركزي يُشرعن هذه الخيانة، وتجمعات وتيارات وتنظيمات سنية وكردية انتهازية مستفيدة تأكل مع القاتل وتبكي على المقتول. أما الذي يأمر في هذا العراق الأسود ويطاع، ويدير شؤونه الصغيرة قبل الكبيرة، فهو جنرال آت من وراء الحدود.

والمشكلة أن سكان هذا العراق الأسود المغلق، جميعا، ومنذ أن اشتعلت الثورة التشرينية لا ينامون، ولا يهدأون. يتشاورون ويتسابقون في اختراع المشاريع وتعديل القوانين، والبحث عن رئيس وزراء جديد يسكب الماء البارد على رؤوس الثوار ويمنيهم بالعسل والمن والسلوى، ويعيدهم إلى منازلهم، ولكن بمواصفات قاسم سليماني المقيم في المنطقة الخضراء، على أن يكون من ذوي الولاء المطلق لإيران، فكرا وسلوكا، ولكن من المستقلين، ظاهريا، عن أحزاب السلطة وكتلها وتياراتها وميليشياتها.

وكما ترون. هؤلاء جميعُهم مازالوا بنفس الغفلة والغباء والجهالة. وكأن ثورة الشعب العراقي الطافحة الهادرة لم تفتح عيونهم وعقولهم بعد. فمن أكبرهم إلى أصغرهم يتفاوضون ويتحاورون ويتبادلون النصائح من أجل اختراع أنجع وسيلة لتبريد الثورة، وإعادة الثوار إلى منازلهم، بالملثمين الذين يطلقون الرصاص الحي، وبالمدسوسين الذين يطعنون بالسكاكين أو يتجسسون على الثوار لتقوم العصابات الغادرة باختطافهم، جنبا إلى جنب مع إهداء الثوار الأقلَّ الأقل من مطالبهم، ولكن بشرط ألا يهزَّ كيانهم، ولا يغير مقاييسهم وعقائدهم، ولا يمس مناصبهم ومكاسبهم ورواتبهم، ولا يكشف المستور من أوراقهم وملفاتهم، كما فعلوا مع المنتفضين في أعوام ماضية.

أما العراق الآخر المترامي الذي طبق الآفاق، واشتعل غضبُ أهله من أقصى قرى البصرة إلى أقصى قرى نينوى وصلاح الدين وديالى والأنبار، فهو العراق الأبيض الذي تتراقص فيه الآمال والأحلام بدولة جديدة متحضرة مؤسساتية رئاسية يختار المواطنون رئيسها بحرية مباشرة ودون وسيط ووصي. يلقون على عاتقه اختيار وزرائه الصالحين ليعيدوا الوطن إلى أهله سالما ومعافى، مستقلا موحدا عامرا ومزدهرا وآمنا كغيره من دول العالم المتحضر التي تحترم نفسها وأهلها.

من هنا يمكن البت والحسم بأن لا لقاء ولا توافق ولا تراضي بين العراق الأسود وبين هذا الآخر الأبيض المنتفض غضبا وشرفا وشجاعة، إلى أبد الآبدين. فلا حل لمأزق دولة قاسم سليماني، ولا لمأزق ثورة ساحة التحرير والنجف وكربلاء والناصرية سوى الصدام، سلما أو حربا، وحتى النهاية.

فإما أن ينتصر الثوار أو ينتصر صولجان قاسم سليماني وأحزابُه وميليشياته ووكلاؤه الفاسدون. وهذا، كما يبدو وكما هو ثابت وواقع، لن يكون، ما دام في النجف والناصرية والبصرة وبغداد والموصل وتكريت والرمادي والفلوجة شعبٌ عراقي متحرر من الخرافة ومن الطائفية والعنصرية والمناطقية عاقل وشريف يموت ولا أحد يمس كرامته وحريته وحقه في الحياة الحرة التي لا تباع ولا تشترى. وليكن ما يكون.