من الطبيعي أن يغرق اللبنانيون في تفاصيل المرحلة الصعبة والدقيقة التي يمرون فيها، فعلى الرغم من حال الإنكار التي ما زالت تعتري مواقف الطبقة السياسية الحاكمة حيال المتغيرات الهائلة التي شهدها الشارع اللبناني، ما يستوجب إعادة صياغة معادلة سياسية جديدة على مستوى تركيبة السلطة، إلّا أنّ الواقع يُنبىء بأنّ التعب الذي راهَن عليه رجال السلطة لم يحصل وبقي الشارع على زخمه، وكذلك «تطييف» الحراك فشل وبقيت صيحات المطالب أقوى من صراخ المذاهب، على الأقل حتى الآن.
 

كل ذلك دفع باللبنانيين الى متابعة يوميات الحراك في الشارع، والتفاصيل المملّة لمحرقة الأسماء المقترحة للحلول مكان الرئيس سعد الحريري في تكليفها تشكيل الحكومة المقبلة. في وقت بَدا فيه أنه من البساطة بمكان الرهان على إمكانية استبدال الحريري بشخصية أخرى.

لكن ثمة تطورات كبيرة تحصل على مستوى الساحة الاقليمية ستطاول ارتداداتها الساحة اللبنانية ومسار الاحداث الحاصلة.

فما حصل في العراق ليس تفصيلاً عادياً بإعلان رئيس الحكومة استقالته، وهو الذي ترأس حكومة كانت توازناتها الداخلية تميل لمصلحة حلفاء ايران.

والأهم أنّ استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي التي تأخرت أسابيع رغم التهاب الشارع، وحصلت في النهاية بعد موقف المرجعية الشيعية الأبرز السيد علي السيستاني المؤيد لمطالب المتظاهرين، لن تعني قرب عودة الاستقرار الى الساحة العراقية ولا قرب تشكيل حكومة جديدة في ظل صراع سيستمر بين الايرانيين والاميركيين حول المعادلة السياسية الجديدة التي يجب أن ترسو.

مع الاشارة الى الأهمية المطلقة للعراق بالنسبة لإيران والحدود المشتركة الطويلة ووظيفة العراق كمعبر إلزامي الى شاطئ البحر الأبيض المتوسط.

وهو ما يعني ضمناً اضطرار طهران للانصراف أكثر الى الملف العراقي ولو على حساب التفرّغ للملف السوري.

رغم ذلك فإنّ المصادر الاميركية تنفي وجود أي دور مباشر لها في التهاب الساحات في الشرق الاوسط. وهي تروي في تأكيدها على ذلك أنّ مستشار الرئيس الاميركي، صهره جاريد كوشنر، التقى منذ أيام في نيويورك أقطاب الطائفة اليهودية، وأبلغ إليهم بوضوح أنه لن يعاود جهوده في ملف التسوية الاسرائيلية - الفلسطينية خلال الأشهر المقبلة لعدة أسباب أهمها:

1- إنشغال الادارة الاميركية بالمعركة الرئاسية المقبلة في ظل ضغوط داخلية هائلة على دونالد ترامب.

2- تولّي كوشنر ملف بناء الحائط الفاصل مع المكسيك، والذي يتطلّب تفرغاً له.

3- الانهيار السياسي الذي يواجهه بنيامين نتنياهو في اسرائيل وهو الذي يشكّل الركيزة الاساسية لمشروع «صفقة القرن»، ما يستوجب إعادة النظر في كامل الخطة الموضوعة والعودة الى مشروع الدولتين.

4- التطورات الكبيرة التي تجتاح الشرق الاوسط، ما يستوجب إجراء دراسة متأنية ومعمّقة للتغييرات التي تصيب المنطقة. وتنطلق المصادر الاميركية من كلام جاريد كوشنر للمسؤولين اليهود للتأكيد أنّ واشنطن غير مستعدة للتدخل بشكل مباشر في أزمات الشرق الاوسط، ولاسيما في العراق ولبنان.

لكنّ المصادر نفسها لا تنفي المتابعة الدائمة والدقيقة والمركزة لكل ما يحصل. وبعيداً عن كلام المصادر الاميركية، إلّا أنّ المراقبين يلاحظون إشارات متضاربة ومتناقضة في الشرق الاوسط تتراوح ما بين السلبية والايجابية.

ففي إسرائيل أجرى رئيس أركان الجيش الاسرائيلي افيف كوخافي مباحثات مع قائد الأركان المشتركة للجيوش الاميركية الجنرال مارك ميلي، جرى خلالها التركيز على النفوذ الايراني في المنطقة، ولاسيما في سوريا. وتأتي هذه الزيارة امتداداً لسلسلة زيارات أجراها جنرالات اميركيون خلال الأشهر الماضية.


في المقابل، أبلغ الجيش الاسرائيلي الى نتنياهو ووزير الدفاع نفتالي بينيت معارضته سَعيهما لتنفيذ ضربات متلاحقة ضد ايران في سوريا، بسبب القلق من ردود الفعل الايرانية، ومنح طهران و»حزب الله» ذرائع للتحرك ضد اسرائيل والافلات من الضغط الحاصل عليه، وأيضاً استجابة طلب روسيا عدم تعقيد الاوضاع أكثر في سوريا ولبنان.

وفي الخليج العربي تواجه ايران تشديداً بحرياً مع بدء تطبيق خطة التحالف الدولي تحت عنوان حماية الملاحة البحرية، والمعروفة بإسم «عملية سانتيفيل».

ولوحظ انّ المجموعة الهجومية التابعة لحاملة الطائرات الاميركية «ابراهام لينكولن» أبحرت عبر المضيق، وتوقفت عند أحد مرافىء البحرين في 19 تشرين الثاني الماضي.

في المقابل، رفع المسؤولون العسكريون الايرانيون مستوى تهديداتهم «ضد الاعداء»، متّهمين إيّاهم بشَن حرب عالمية في شوارع ايران. وهدّد قائد «الحرس الثوري» اللواء حسن سلامي واشنطن ولندن والرياض بعقوبات شديدة اذا تخطّت الخطوط الحمر الايرانية.

وحذّر من نفاد صبر «الحرس الثوري»، ومن أنّ أيّ استفزاز خارجي سيولّد رَدّ فعل قوياً في وقت ومكان يختارهما بنفسه، وذلك خلال إشرافه على تدريبات الدفاع الجوي، التي حملت تسمية «مريم الولاية».

صحيح أنّ هذا التدريب هو سنوي، ولكنه صمّم هذا العام لمحاكاة منطقة العمليات المشتركة في الخليج ومضيق هرمز.

وهي إشارة توقفت عندها واشنطن باهتمام، باعتبار أنّ المسؤولين الايرانيين قد يندفعون في تحديات عسكرية لتجاوز الأزمات الداخلية. لكن رغم أجواء الرسائل الحربية، ثمة إشارات إيجابية تستحق التوقف عندها.

فخلال الزيارة التي قام بها الرئيس الاميركي دونالد ترامب الى افغانستان والتي حملت أهدافاً انتخابية، أعلن ترامب عودة المفاوضات مع حركة «طالبان».

هذه الخطوة حصلت برعاية قطر التي كانت قد أرسلت وزير خارجيتها في زيارة سريّة للسعودية، مُعلناً استعداد بلاده لقطع علاقتها مع «الاخوان المسلمين» في مقابل عودة العلاقات الطبيعية بين البلدين.

في المقابل، تردّدت معلومات عن لقاء سري عقد بين وفد ايراني برئاسة وزير الخارجية محمد جواد ظريف وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني مع قادة «طالبان» برئاسة شقيق رئيس المكتب السياسي للحركة الملا عبد الغني.

وقيل انّ الوفد الايراني أبلغ الى وفد «طالبان» استعداد بلاده للجلوس مع الجانب الاميركي، بهدف إنهاء ملف افغانستان.

قبل ذلك، كان وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي قد زار واشنطن في سعيه لإيجاد حل لأزمة اليمن، على أن يَتبع ذلك زيارته طهران بهدف تأمين طاولة مستديرة يشارك فيها الايرانيون والاميركيون حول اليمن.

وكانت لافتة المرونة السعودية تجاه فتح قناة حوار خاصة مع طهران، ومن خلال مرشد الثورة السيد خامنئي.

قد تكون كل هذه المؤشرات الايجابية صحيحة، ولكن هذا لا يلغي عرض العضلات او حتى انتزاع النقاط ميدانياً، خصوصاً انّ الحوار إذا حصل سيتطلب وقتاً طويلاً، ما يستدعي من اللبنانيين تدوير الزوايا والتعامل بواقعية وعدم الرهان على أحلام لا تزال بعيدة التحقيق.