إسرائيل تلعب وفق قواعدها القديمة وإيران وتركيا تخسران أوراقا كثيرة في سباق التنافس الإقليمي.
 
تحضر تركيا وإسرائيل وإيران في الصف الأول للاعبين المنغمسين في الصراعات في لعبة تحولات في منطقة الشرق الأوسط. تختلف قواعد لعب كل طرف. وتتباعد الدول الثلاث في مسائل لكنها تتقارب في أخرى. ويفرض تواجد هذه القوى، التي نجحت في التأثير في توازنات كثيرة في المنطقة، إلى جانب روسيا، على دول المنطقة مراجعة خارطة توزع القوى وتعديل بوصلتها حتى لا تنزل أكثر في الفوضى التي تستثمر فيها قوى “صاعدة” على غرار إيران وتركيا.
 
أبوظبي – ضمن توزع القوى الجديدة في الشرق الأوسط، رصد ملتقى أبوظبي الإستراتيجي السادس، ما هو معروف من بروز ثلاث قوى رئيسية من خارج العالم العربي، كما رصد تنافسها على الهيمنة والقيادة في المنطقة: إيران وتركيا وإسرائيل.
 
لكن في الوقت الذي تتقدم فيه إيران بصفتها قوة إقليمية متحدية لقواعد النظام الدولي، تواجه جملة من الأزمات المحلية والخارجية التي تكشف حدود قدرتها على تحقيق طموحاتها الإقليمية. بالمقابل تنخرط إسرائيل بشكل فاعل في صياغة قواعد اللعبة الجديدة في الشرق الأوسط، فيما تبدو تركيا في طريقها إلى خسارة أوراق كثيرة في لعبة التنافس الإقليمي.
 
دور إسرائيلي مختلف
لا يمكن للباحث إلا أن يلاحظ الأزمة الحكومية في إسرائيل والتي قد تفضي مرة أخرى إلى الذهاب إلى انتخابات عامة مسبقة علها تغير من شكل المشهد السياسي في الكنيست. لكن، في الوقت عينه، لا يمكن إغفال أن إسرائيل الدولة تعمل، وأن أجهزتها الأمنية والعسكرية قادرة على شن هجمات كتلك التي استهدفت قياديين لحركة الجهاد الإسلامي في غزة ودمشق، وقادرة على خوض حرب دون أي اكتراث بأزمة البلد السياسية.
 
مع ذلك، لا يمكن الاستخفاف بأزمة الانسداد السياسي المتعلّق بالموقف من التسوية السياسية وتوقّف المفاوضات مع الفلسطينيين، كما بأزمة الوجود المرتبطة تارة بتعملق المارد الديموغرافي العربي داخل أراضي فلسطين التاريخية، وتارة أخرى بهواجس الأمن سواء في ما تمثله الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة أو حزب الله في لبنان والحضور العسكري الإيراني في سوريا.

ويرى محللون أن الانتخابات الأخيرة لم تفصح عن أطروحات سياسية مختلفة بإمكانها أن تشكل رافعة جديدة للسلم في المنطقة. ويقول الدكتور ديفيد بولوك، وهو عضو زمالة برنشتاين ومدير “منتدى فكرة” بمعهد واشنطن، إنه “من غير المرجح أن نشهد تغييرات جوهرية في السياسة الإسرائيلية في ما يتعلق بالمنطقة والعالم بعد تشكيل الحكومة الجديدة”.

ويبني بولوك تحليله على أن إسرائيل متحررة من أي ضغوط داخلية أو خارجية، لاسيما في عهد إدارة الرئيس دونالد ترامب في الولايات المتحدة، تفرض عليها تغييرات جوهرية في البنية العقائدية والإستراتيجية لعقلية الحكم فيها.

ومع ذلك لا يرجح بولوك أن تخوض إسرائيل حربا ضد حزب الله أو حماس، على أن تصوره تناقض مع ذهاب إسرائيل إلى ضرب أهداف لـ”الجهاد” في دمشق وغزة ما أدى إلى تفجّر الحرب المحدودة الأخيرة في قطاع غزة. ويعتبر الباحث الأميركي أن إيران “ستبقى في مرتبة الخطر الوشيك من وجهة النظر الإسرائيلية”، ويتوقع “ألا تتردد إسرائيل في استهداف القوات الإيرانية وحلفائها في العراق وسوريا ولبنان”.

ولم يوضح بولوك كيف لإسرائيل أن تضرب أهداف خصومها التابعين لإيران في هذه الدول “دون أن يؤدي الأمر إلى تصعيد كبير على حدود إسرائيل الشمالية”. بيد أن الرجل يرى مع ذلك أن الأمور تجري وفق سقف معين، معتبرا أن الجميع سيلعبون وفق قواعد لعبة محددة.

على أن النقاش الذي طال إيران، في الجلسة المخصصة لدورها ما بين تركيا وإسرائيل، يوضح ضبابية لدى الباحثين في استشراف مآلات الأزمة الدولية مع إيران منذ قرار ترامب سحب بلاده من الاتفاق النووي الشهير. ويدور الجدل حول قدرة الضغوط الحالية على إحداث تغيير في موقف طهران وسلوكها في المنطقة.

ويقول الدكتور مسعود أنصاري، وهو أستاذ التاريخ الإيراني في جامعة سانت أندروز، إنه “لم تثبت لغاية الآن صحة الادعاء القائل إن الضغوط الاقتصادية على إيران من شأنها الحد من أنشطة إيران الإقليمية”. بيد أن هذا التقييم تعوزه الحصافة، كون عصب الاقتصاد الإيراني متهالكا ويهدد بانهيار مجتمعي عام، فيما يكرر قادة إيران حاجة بلادهم لرفع العقوبات الأميركية كشرط أولي لأي مفاوضات. لكن أنصاري يكشف أن “المجتمع الإيراني لا يوافق على خيارات النظام الحاكم في البلد”، وأن الشعب الإيراني “يشعر بأن “البلاد تستنزف الكثير من الوقت والجهد في محاولات التمدد الإقليمي”.

ويرى باحثون أن الانفجار الاجتماعي بات مسألة وقت، خصوصا أنه لا يمكن للكتل الشعبية الإيرانية إلا التأثر بالانفجارات الشعبية الحاصلة في لبنان والعراق، والتي تمثل احتجاجا صارخا على أنظمة سياسية ترعاها طهران.

ويعتبر أنصاري أن مسألة النفوذ الإقليمي لإيران “لا تهم الرأي العام الداخلي الإيراني”، لأنه يعتقد أن إمكانات البلاد الاقتصادية تنفق على الخارج، وأن هذا التمدد لا يحمل وفورات مالية لإنعاش الداخل. ويلفت إلى أنه “بينما يروج الحرس الثوري إلى وجود انتصار في سوريا والإقليم، فإن الشعب الإيراني يبدو غير مكترث لهذه النجاحات لأن اهتماماته مغايرة”.

الحالة التركية
يلقي النقاش مجهرا على الحالة التركية في المنطقة راصدا تطور تجربة حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان وتذبذب أهدافها في السياسة الخارجية. فالواضح أن تركيا أردوغان تجاوزت عقيدة “صفر مشكلات” التي كان يعمل عليها منظر الحزب، ووزير ورئيس الوزراء الأسبق، أحمد داوود أوغلو، كما تجاوزت تقليدية تحالفها غربا باتجاه محاولات تجريبية للتعايش بين تحالف أطلسي بقيادة الولايات المتحدة وآخر شرقا بزعامة روسيا.

ويرى الباحثون أن خيارات أردوغان في تسويق النموذج التركي للإسلام باتت مترهلة تنقصها المصداقية لدى المجتمع الدولي. وفيما تتردد أصوات أطلسية تشكك بالتحالف مع تركيا بعد شرائها منظومة أس 400 الصاروخية الروسية، تتهم الأوساط الأوروبية أردوغان ونظامه بالتسويق لإسلام سياسي متواطئ مع تنظيمات جهادية مثل داعش والقاعدة.

ويقول الدكتور فيليب جوردون، وهو زميل بحث أول في السياسة الخارجية للولايات المتحدة في مجلس العلاقات الخارجية، إن “الغرب راهن على النموذج التركي في المصالحة بين الإسلام والمعاصرة”. ويضيف أن “الغرب اعتبر  أن نموذج الشراكة الناجحة بين تركيا والغرب من خلال حلف الناتو والتعاون الاقتصادي، يؤسس لعلاقة جديدة بين الشرق والغرب”. ويخلص الباحث الأميركي إلى أن “تركيا عمليا تحولت تدريجيا من حليف مقرب من الولايات المتحدة إلى خصم يفكر الغرب في إنهاء عضويته في حلف الناتو”.

وتقترب هذه الخلاصة من مضامين الزيارة التي قام بها أردوغان مؤخرا إلى الولايات المتحدة، من حيث اصطدام الرئيس التركي بمزاج أميركي، عبر عنه عدد من شيوخ الكونغرس بشكل صريح. ويفصح هذا المزاج عن تحول غربي حيال تركيا وتفكير جدي في التعامل معها بصفتها بلدا يبتعد عن المنظومة الغربية ولا يمكن الوثوق بها ولا التعويل عليها داخل مشهد التوازنات الدولية الراهن من داخل معسكر الحلفاء.