خلافاً لأي نص آخر لم يُعلن أحدٌ من المعنيين بالاستحقاق الحكومي رسمياً بعد انّهم اتفقوا على تسمية الوزير السابق محمد الصفدي لتأليف الحكومة الجديدة، على رغم من عدم دستورية هذه التسمية التي يُفترض ان تتمّ نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية لهذه الغاية.
 

لذلك، لا يصحّ الكلام الآن عن تسمية الصفدي او اي شخصية أخرى لتأليف الحكومة، وكذلك لا يجوز الإتفاق مسبقاً على هذه التسمية لأنّها تجعل من استشارات التكليف الدستورية الملزمة لرئيس الجمهورية بنتائجها صورية، فيما الوضع الطبيعي هو ان تُجرى الاستشارات بلا اتفاقات مسبقة، بحيث يتنافس فيها اكثر من مرشح لرئاسة الحكومة ومن ينال منهم تأييد الاكثرية النيابية يكلّفه رئيس الجمهورية تأليف الحكومة الجديدة.

ولكن لبنان «بلد التوافق والتسويات» بتركيبته السياسية والطائفية المعقّدة، يتيح حصول هذا النوع من الاتفاقات، ما يحول دون ممارسة اللعبة الديموقراطية «عالمسطرة». إلّا انّ الحراك الشعبي الذي يشهده الشارع منذ شهر تقريباً جعل من هذه الخطوة علامة فارقة في الواقع السياسي المأزوم، إلى جانب الازمة الاقتصادية والمالية الخطرة التي كانت السبب الرئيس للإنتفاضة الشعبية القائمة، التي تدفع في إتجاه بناء سلطة جديدة او إعادة بناء السلطة القائمة بطبقة سياسية جديدة خالية من الفساد والمفسدين.

فما أُعلِن منذ ليل امس الاول الى اليوم عن تسمية الصفدي لرئاسة الحكومة الجديدة، لا يعدو كونه كلاماً رَشَح من اللقاء او اللقاءات في «بيت الوسط»، بين رئيس الحكومة المستقيلة سعد الحريري ومعاوني رئيس مجلس النواب والامين العام لـ«حزب الله» الوزير علي حسن خليل والحاج حسين خليل، وقبلها اللقاءات بين الحريري ورئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل. إذ إنّ جميع الذين شاركوا في هذه اللقاءات لم يعلنوا رسمياً تصريحاً او عبر بيان، انّهم اتفقوا على تسمية الصفدي.

ولكن الشارع تلقف التسمية وكأنّها اعلان رسمي وبنى عليه مقتضاه تصعيداً لجأت اليه قوى الحراك الشعبي وكل من ركب موجته، بإقفال طرق واوتوسترادات في بيروت والمناطق وإعلان مواقف ورفع شعارات ترفض الصفدي رئيساً للحكومة، فيما صدرت من المقار الرئاسية والسياسية مواقف توحي أنّ ما حصل لم يرق الى مستوى إتفاق ناجز على إختيار الصفدي للموقع الثالث في هرم السلطة، بدليل ما رَشَح من «مصادر» القصر الجمهوري من انتقاد لما سمّته «تردّد» الحريري الذي يؤخّر الدعوة الرئاسية الى استشارات التكليف.

وفي الوقت الذي شاع انّ الحريري اتفق مع «الخليلين» على تسمية الصفدي لرئاسة الحكومة من ضمن لائحة عُرضت خلال اجتماعه معهما، بدا الوضع على جبهة هذين «الخليلين» بما يمثلان، لا يعكس وجود اتفاق من هذا النوع، وانّ الامر لا يعدو كونه «قنبلة دخانية» القاها البعض لحجب الرؤية عن اشياء اخرى، او لإحداث مزيد من البلبلة في الواقع، فيما الجميع يدرك انّ ردود الفعل المعترضة حتى الآن على تسمية الصفدي كافية للدلالة على انّ هذه التسمية قد لا تجد طريقها الى النفاذ، فهي لم تلقّ قبولاً لدى الحراك الشعبي الذي لا يزال يهوج ويموج ضدها، ولا يبدو انّها لقيت القبول المطلوب لدى مختلف القوى السياسية، خصوصاً انّ الحريري لم يعلن رسمياً في تصريح او بيان انّه سمّى الصفدي خلفاً له في رئاسة الحكومة، فضلاً عن انه لم يصدر اي شيء من هذا القبيل عن «الخليلين»، على رغم اجتهاد باسيل بالاعلان عن اتفاق على الصفدي، وانّ الاستشارات النيابية لتسميته لتأليف الحكومة ستجرى الاثنين والثلثاء المقبلين.

واللافت، كان التسريبات التي جرت حول الصفدي، ولا سيما منها تلك التي تحدثت عن انّ الحريري لم يطرحه شخصياً، وانما اختاره من لائحة تضمنت مجموعة اسماء حملها اليه «الخليلان»، الامر الذي اثار استياءهما، فسارعا الى تسطير بيان ردّا الكرة فيه الى ملعب المُسرّبين، واكّدا انّهما اصرّا على الحريري لتولّي رئاسة الحكومة على ان يكون ثلثا وزرائها من التكنوقراط، ولكنه رفض مصرّاً على تكليف غيره، ومشيراً الى أنّ رؤساء الحكومة السابقين وافقوا على تسمية الصفدي بعد رفض الرئيس تمام سلام الامر عندما عُرض عليه، وتعهّد، أي الحريري، ان يشارك تيار «المستقبل» في «الحكومة الصفدية» إذا جاز التعبير.


إلّا انّ بعض السياسيين العاملين على إنجاز الاستحقاق الحكومي، يؤكّدون انّ الصفدي كان منذ البداية مرشح رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وباسيل لرئاسة الحكومة، وفي الاجتماعات التي انعقدت اخيراً بينهما وبين الحريري رشحاه لخلافته، في حال ظل مصرّاً على عزوفه عن تولي رئاسة الحكومة العتيدة. ولم يخف باسيل اغتباطه بالصفدي لأنّه كان «خياره الاول» لرئاسة الحكومة مذ بدأ الحريري يصرّ أمامه على العزوف.

على انّ الحريري من جهته لم يخفِ تأييده «القوي» للصفدي امام الخليلين، بل انّه قال لهما عنه انّه «خليفي ومعي وعندي».

لكن الذي فاجأ عون والحريري وباسيل هو عدم حماسة «الثنائي الشيعي» للصفدي من جهة، واعتراض الحراك الشعبي على تسميته من جهة ثانية، وترجم الحراك إعتراضه بالتصعيد في الشارع منذ شيوع هذه التسمية امس الاول.

ولوحظ انّ «الثنائي الشيعي» يتصرّف على اساس انّه في حل من تسمية الصفدي التي لم يعلنها الحريري او غيره رسمياً بعد. وقيل ان الثنائي شعر بوجود مخطط لدفعه الى خلاف سياسي مع عون وباسيل لتأييدهما الصفدي، الذي لم يلق قبولاً لديه ولكنه لم يمانع رغبة حريري بتسميته، على رغم الاصرار الشيعي على بقائه هو في رئاسة الحكومة كونه الزعامة السنّية الاكثر شعبية في طائفته.

وفي ضوء كل هذه الوقائع والمعطيات، يعتقد البعض انّ الصفدي قد لا يصل الى مرتبة التكليف، وأنّه إن كُلّف قد لا يتمكن من تأليف حكومة. والبعض يقول انّ الصفدي في حال اجتاز «امتحان التكليف» بنجاح فإنّه قد لا يتمكن من اجتياز «امتحان التأليف» لاعتبارات واسباب كثيرة، لأنّ الحراك الشعبي لا ينظر اليه، او لم ير فيه حتى الآن الشخصية التي تستطيع ان تلبي مطالبه وتطلعاته الى بناء دولة خالية من الفساد، ولذلك لن يتمكن من تأليف الحكومة هو وكل من يؤيّده، هو وحليفه الحريري، او هو ومؤيّداه عون وباسيل. والبعض يقول هنا ان الصفدي «لن يؤلف» وان داعمَيه «لن يؤلفا».

وثمة من يقول انّ الحريري رمى «كرة الصفدي» ليحصل ما يحصل من هيجان سياسي في السياسة وفي الشارع ليُظهر انّه هو الحل وان على الآخرين ان يلبّوا مطلبه تأليف حكومة من الاختصاصيين، اي حكومة خالية من السياسيين، يراها الحل لإستعادة لبنان الثقة العربية الدولية به وبالتالي اجتذاب مليارات مؤتمر «سيدر» والدعم المالي العربي من مساعدات وقروض في مختلف المجالات وودائع كبيرة في مصرف لبنان المركزي.

ولذلك، قد يكون الحريري إختار ان يعود الى رئاسة الحكومة على طريقته. اما إذا كان يضمر العكس، أي الخروج نهائياً من رئاسة الحكومة، فإنّ الاستحقاق الحكومي سيكون مفتوحاً امام آخرين غيره، قد لا يكون الصفدي من بينهم، ستظهر الايام وطبيعة المرحلة اسماءهم والمواصفات، ليؤلّفوا حكومة لن تكون إلّا «تكنو ـ سياسية» إلتزاماً بـ«إتفاق الطائف».