لا يملك الأطراف اللبنانيون تَرف استهلاك الكثير من الوقت، وتبذيره في لعبة المناورات سبيلاً وطريقاً للمفاوضات. لم تعد الحسابات السياسية وحدها تكفي، فهنالك عنصر الشارع الذي دخل بقوة على الخط، والذي لا بد من أخذه في الاعتبار، خصوصاً لناحية بعض جوانبه التي قد تجنَح الى الخطر.
 

خلال الايام الماضية تخاطبت واشنطن وطهران فوق ساحتي العراق ولبنان. بيانٌ لوزارة الخارجية الاميركية وكلام غير مسبوق لمرشد الثورة الاسلامية في إيران السيّد خامنئي يحذّر من المساس بالنظامين القائمين في العراق ولبنان.

وتَلا ذلك خطاب قوي للأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله تَضمّن عدداً من الرسائل. فبعد أن صَوّب على الدور الاميركي حول ما يشهده لبنان، قال إنّ «حزب الله» أقوى من أي يوم مضى وهو لم يتصرف بعد بأي ورقة من أوراق القوة التي يمتلكها. وتابع، في ما بَدا رداً على تحذير حاكم مصرف لبنان بالفوضى الاقتصادية، بأنه حتى لو ذهب البلد الى الفوضى، فالمقاومة ستبقى قادرة على دفع الرواتب.

الرسائل التي تطايرت يميناً ويساراً، لم تلغِ تفاؤل البعض في أنّ الجميع ملزمون بالدفع باتجاه ولادة حكومية قريبة.

فحال الحذر ما بين واشنطن وطهران قد يكون لها ما يبرّرها عراقياً، ولكنها لا تبدو واقعية على الساحة اللبنانية، خصوصاً انّ الطرفين يتمسكان بالمحافظة على استقرار الساحة اللبنانية ولديهما مصلحة بذلك.

واشنطن التي تتوقّع أن تدوم الحالة الانتقالية، وهو ما تعنيه بفترة ولادة الحكومة، ببضعة أسابيع، تراهن على حرص «حزب الله» على حماية التركيبة السياسية التي بناها ورعاها في لبنان، وبالتالي عدم الانزلاق الى المجهول.

وفي المقابل يعمل «حزب الله» على اكتشاف بصمات واشنطن في ساحات الحراك الشعبي، والذهاب للاستنتاج أنّ الولايات المتحدة الاميركية تملك مشسروعاً وهي تدفع في اتجاهه، وتهدف من ورائه لعزل «حزب الله» ومحاصرته انتظاماً مع مسار الصراع الدائر في المنطقة. وهذا ما لا توافق عليه دوائر ديبلوماسية أوروبية، والتي تكتفي بالقول إنّ الادارة الاميركية منشغلة في ملفات هائلة في المنطقة، إضافة الى أنها غارقة في صراعات داخلية عنيفة، ما يجعلها غير قادرة على الانصراف الى مشاريع على الساحة اللبنانية.

لكن لا شك في أنّ الدوائر الاميركية المعنية تابعت بكثير من الشغف التحركات الشعبية على الساحة الشيعية خصوصاً، ولو أنها جاءت محدودة ومتواضعة.

في الوقت نفسه هنالك من يؤكد أنّ واشنطن لن تتأخر في إعادة استخدام السلاح الذي دأبت في استعماله أخيراً، وهو سلاح العقوبات. لكنها تتحدث هذه المرة عن أسماء ومؤسسات من خارج الطائفة الشيعية والمقصود هنا من الطائفة المسيحية، وذلك خلال الاسابيع المقبلة بتهمة التعاون مع «حزب الله».

في نهاية الأمر فإنّ «حزب الله» المُرتاب من الرياح الاميركية التي يحملها مسؤولية استقالة الحكومة اللبنانية، مُتمسّك بحكومة جديدة تحفظ توازنات الحكومة السابقة، ولو تغيّرت وجوه وزرائها.

وفي المناسبة هو يريد حلاً يحفظ لبنان من الفوضى، ولكن مع التمسّك بالمحافظة على التوازنات السياسية التي نشأت بعد الانتخابات النيابية.

بمعنى آخر هو مستعد للمفاوضة، وربما المقايضة، على الشكل لا على المضمون. والواضح أنّ هذا الحذر، بل الارتياب ما بين واشنطن و«حزب الله» في حاجة الى طرف ثالث قادر على تقديم الضمانات وتدوير الزوايا.

والصمت الروسي الذي لازمَ فورة الشارع اللبناني كان له تفسيره. فموسكو صديقة لإيران و«حزب الله»، وهي شريكة في تفاهمات جرى صوغها في سوريا مع الولايات المتحدة الاميركية. وحَريّ الاستنتاج بأنّ لبنان يشكّل امتداداً للتفاهمات في سوريا.

ولأنّ موسكو متمسكة بالحفاظ على استقرار الساحة اللبنانية، فهنالك من يتحدث عن دخول روسي على خط الاحداث في لبنان عندما يحين الوقت الملائم، وقد لا يكون بعيداً.

فخلال اليومين المقبلين سيجري تكليف الرئيس سعد الحريري بتشكيل الحكومة الجديدة، وهو ما قد يجعل الوقت ملائماً لترتيب خارطة التوازنات والضمانات المطلوبة.

وتردّد خلال الأيام الماضية، وتحديداً عقب حادثة الطائرة المسيّرة الاسرائيلية في جنوب لبنان، أنّ روسيا طلبت من اسرائيل عدم الدخول على خط الاحداث في لبنان، لأنّ ذلك سيزيد التعقيدات التي ترزح الساحة اللبنانية تحت ثقلها.

ذلك انّ هنالك من بدأ يقلق من النتائج المستقبلية لِما هو حاصل الآن. فولادة حكومة تتجاوز مطالب حراك الشارع في لبنان ستؤدي حُكماً الى زيادة الاحتقان، وما هو أخطر زيادة الاحتقان لدى الشارع السني الذي استعاد حيويته خلال المرحلة الاخيرة.

وباب الخطورة أنّ الاحتقان هنا يؤدي الى معانقة دعوات متطرفة، قد تجد أفراداً يسقطون في حبائلها.

منذ بضعة أيام ذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» أنّ مقتل أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم «داعش»، «قد يُنعش خلايا هذا التنظيم بدلاً من زواله».

والساحة اللبنانية ساحة مجاورة للساحة السورية، بل متداخلة معها. كما أنّ المسارب من إدلب الى شمال لبنان موجودة. فهل من الحكمة المساهمة في استعادة أجواء سابقة، أم في استباق مخاطر من المحتمل أن تتكرر؟