الصين أصبحت قادرة على التأثير على السياسة الخارجية الأوروبية بصورة كبيرة.
 
 قبل أسابيع قليلة من توليها رئاسة المفوضية الأوروبية، قالت أورسولا فون دير لاين إن المفوضية ستكون “كيانا جيوسياسيا”. هذا التصريح يعكس مدى قلق الاتحاد الأوروبي من اندفاع العالم مرة أخرى نحو نظام ثنائي القطبية تقوده الولايات المتحدة والصين، حيث أعادت الحرب التجارية الحديث عن نظام دولي ثنائي القطبية تعزز بصراع النفوذ المُعلن بين بكين وواشنطن.
 
ومع استعداد الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الصيني شي جين بينغ للاجتماع خلال قمة مجموعة العشرين القادمة، تواجه أوروبا صعوبة في الاختيار بين الطرفين وأيهما ستدعم، وتبدو حائرة بين سياسات ترامب الشعبوية ومخاطر النفوذ الصيني المتصاعد.
 
وبحسب الكاتب والمحلل الألماني أندرياس كلوته. فأنه قد لا يمر وقت طويل قبل أن يجد الاتحاد الأوروبي نفسه محصورا بين قوتين هائلتين هما الصين والولايات المتحدة.
 
 
منافسة اقتصادية كبيرة
من المفترض أن الولايات المتحدة حليف وليس منافسا للاتحاد الأوروبي، لكن على الصعيد التجاري، يتعامل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مع أوروبا باعتبارها عدوا أكثر منها صديقا.
 
وفي حين نفّذ ترامب تهديدات بفرض رسوم على صناعة السيارات الأوروبية جمركية بقيمة 7.5 مليار دولار على السلع الأوروبية في الثامن عشر من أكتوبر الجاري، متوعدا بإجراءات تجارية أخرى ستكون حاضرة بقوة، فإن خط التفكير الوحيد لدى الاتحاد الأوروبي يرى أنه كلما اقترب موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2020، ستقل رغبة ترامب في إثارة المزيد من النزاعات مع الشركاء التجاريين للولايات المتحدة، وبينها الاتحاد الأوروبي.
 
وينطلق هذا التصور من أن ترامب سيخاطر بفقدان أصوات الناخبين الأميركيين الذين سيتضررون من أي إجراءات عقابية يفرضها الاتحاد الأوروبي على الصادرات الأميركية، ردا على أي تحركات من جانب إدارة ترامب. غير أن هذه الإستراتيجية الأوروبية، تنطوي على خطورة لأن ترامب يمكنه دائما مخالفة التوقعات ويتجه إلى التصعيد مع الاتحاد الأوروبي ويفرض المزيد من الإجراءات الحمائية، في محاولة من جانبه لاستمالة كتلته الانتخابية الرئيسية.
 
وأكثر ما يخشاه الأوروبيون اليوم هو أن يواصل ترامب اندفاعه ويفرض رسوما جمركية أعلى منتصف نوفمبر القادم على السيارات الأوروبية، الأمر الذي سيؤثر بشكل خاص على صناعة السيارات الألمانية التي تعاني بالفعل حتى وإن كانت فولكسفاغن أو بي.إم.دبليو تصنع سياراتها أيضًا في الولايات المتحدة.
 
وكرئيس شعبوي وسياسي وطني، يعارض تعامل الاتحاد الأوروبي باعتباره كيانا واحدا متعدد الأطراف. كما أنه أثار الشكوك في استمرار الولايات المتحدة في الدفاع غير المشروط عن حلفائها الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
 
القوانين الأوروبية الصارمة بشأن مكافحة الاحتكار وحماية المنافسة، تحد من فرص ظهور كيانات أوروبية عملاقة قادرة على منافسة الكيانات الأميركية والأوروبية
 
معنى ذلك أن ترامب ينسف مبدأ أوروبيا مستقرا. فمنذ الخمسينات من القرن الماضي، اعتمدت أوروبا الغربية على الترسانة العسكرية والنووية الأميركية، وعلى الدور المسيطر للولايات المتحدة في النظام العالمي، باعتبارها شروطا أساسية للأمن والاستقرار في أوروبا. ودون الحماية الأميركية، ستشعر أوروبا بأنها عرضة للمخاطر.
 
في المقابل، فإن أوروبا تعتبر الصين عدوا، لأنها تمثّل البديل السلطوي للنظام الديمقراطي الليبرالي الغربي. وعلى مدى سنوات طويلة ظلت أوروبا تتعامل مع الصين باعتبارها سوقا ضخمة للتصدير، لكن هذا الوضع تغيّر الآن، بعد أن اتجهت الشركات الصينية إلى الاستحواذ على شركات التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة.
 
وقد شعر الألمان بقلق شديد عندما اشترت شركة صينية شركة “كوكا” الألمانية الرائدة في مجال تكنولوجيا الإنسان الآلي. وفي العام الماضي تدخلت الحكومة الألمانية لأول مرة لمنع صفقة استحواذ صيني على إحدى الشركات الألمانية.
 
وفي الوقت نفسه، فإن الصين ومن خلال مبادرتها التنموية الدولية “الحزام والطريق” تستخدم مشروعات البنية التحتية والمساعدات المالية؛ لتحويل بعض الدول الأوروبية إلى ورقة دبلوماسية تستخدمها في التعامل مع الاتحاد الأوروبي.
 
وتنظم الصين منتدى ”17 زائد 1” للتواصل مع دول شرق ووسط أوروبا. وعلى سبيل المثال تسيطر الصين على ميناء بريوس اليوناني الشهير. كما تموّل مشروعات طرق سريعة وخطوط سكك حديدية بين دول البلقان والمجر. لذلك لم تكن مفاجأة أن تتدخل اليونان والمجر لتخفيف لهجة بيانات صادرة من الاتحاد الأوروبي أو منع صدورها، تتعلق بسجل حقوق الإنسان في الصين أو الممارسات الصينية في منطقة بحر الصين الجنوبي المتنازع عليها بين دول عديدة.
 
حقائق جيوسياسية
 
المعروف أن الاتحاد الأوروبي يحتاج إلى إجماع الدول الأعضاء لإصدار أي بيان أو اتخاذ أي موقف يتعلّق بالسياسة الخارجية، وهو ما يعني أن الصين أصبحت قادرة على التأثير على السياسة الخارجية الأوروبية بصورة كبيرة.
 
وإلى جانب الكابوس الذي يمثّله التهديد الصيني، والتحوّلات في السياسة الأميركية، هناك كابوس جيوسياسي آخر يتمثل في روسيا وتركيا. ورغم أنهما أصغر من الصين والولايات المتحدة، إلا إنهما أقرب إلى أوروبا وهو ما يعني أن خطرهما لا يستهان به.
 
والمعضلة التي تواجه الاتحاد الأوروبي في ظل هذه الحقائق الجيوسياسية، هي أن الاتحاد نشأ كمشروع للسلام على أنقاض الدمار الذي تسببت فيه النزعات الوطنية لدول القارة قبل الحرب العالمية الثانية.
 
كما أن جوهر الاتحاد الأوروبي حاليا هو القوة الناعمة والتعاون. معنى هذا أن الاتحاد الأوروبي في ذاته يبدو كمفارقة تاريخية. وفي ملاحظة طريفة قال وزير خارجية ألمانيا السابق زيغمار غابرييل إن “الأوروبيين مثل نباتيين في عالم من أكلة اللحوم” ودون البريطانيين، باعتبارهم الأفضل تسليحا في أوروبا حاليا، ستصبح أوروبا أشد قربا من النباتيين.
 
ويرى الكاتب الألماني أندرياس كلوته، في تحليله أن أوروبا تستطيع تعزيز قوتها من خلال الوحدة، مشيرا إلى القوة التي يتمتع بها الاتحاد الأوروبي على صعيد التجارة العالمية؛ لأنه يتفاوض ككتلة واحدة. ولكن للأسف الشديد فإن هذه الوحدة الاقتصادية ليس لها الصدى نفسه على الصعيد التشريعي ولا العسكري.
 
وحذّر كلوته من أن القوانين الرقمية الحالية في الاتحاد الأوروبي، ستهدد فرص لحاقه بالولايات المتحدة والصين في مجال الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على استخدام كميات هائلة من البيانات، ويحتاج إلى تخفيف قوانين حماية خصوصية البيانات. كما أن القوانين الأوروبية الصارمة بشأن مكافحة الاحتكار وحماية المنافسة، تحدّ من فرص ظهور كيانات أوروبية عملاقة قادرة على منافسة الكيانات الأميركية والأوروبية.
 
وبحسب كلوته، فإنّ هذه الفكرة قد تكون في صالح جماعات الضغط التي تمثّل مصالح شركات أقلّ كفاءة في التعامل مع آليات السوق العالمية، وعلى حساب المستهلكين في أوروبا. هنا تأتي معضلة جديدة لأوروبا، وهي كيف تدافع عن نفسها في مواجهة الآخرين، وفي الوقت نفسه لا تتخلّى عن نقاط قوتها، والتي تتمثّل بشكل أساسي في انفتاح الاتحاد الأوروبي، سواء كسوق للمنتجات أو كساحة للأفكار. فحتى عندما تدافع عن نفسها، لا يجب على أوروبا أن تتخلّى عن ليبراليتها وإلا فإنها لن تظل في صورتها الأوروبية.
 
على مدى سنوات طويلة ظلت أوروبا تتعامل مع الصين باعتبارها سوقا ضخمة للتصدير، لكن هذا الوضع تغير الآن، بعد أن اتجهت الشركات الصينية إلى الاستحواذ على شركات التكنولوجيا الأوروبية المتقدمة
 
واليوم مع صعود نفوذ الصيني وتقلّب السياسية الأميركية برئاسة رئيس شعبوي مثل ترامب تبدو أوروبا في حيرة حقيقية حول خياراتها في المرحلة المقبلة على صعيد العلاقات الدولية، والتعامل مع تداعيات الحرب التجارية على مستوى اقتصادي.
 
وبينما تشترك أوروبا في قيمها الأساسية ونظامها الاقتصادي مع الولايات المتحدة، إلا أنها تعارض نظام الحكم في الصين وتراه قمعيا واستبداديا. من جهة أخرى، تشكّل سياسات دونالد ترامب الاقتصادية الصارمة التي تتبع شعار “أميركا أولا” تحديا للصين ولحلفاء الولايات المتحدة في أوروبا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية. وعليه يجب أن تعمل هذه البلدان، وخاصة ألمانيا التي يعتمد اقتصادها على التجارة، دون أن تتجاهل بموازاة ذلك مصالحها في بكين.
 
وليس اختيار الالتفاف حول أحد الطرفين: إما واشنطن وإما بكين مجرد اختيار عادي بين صفقتين إنه معضلة حقيقية بالنسبة للدول الأوروبية. وباتت بذلك أوروبا في قلب الصراع التجاري بين الولايات المتحدة والصين. وتبدو سياساتها مرتكبة وأيضا منقسمة حول كيفية تجنّب تداعيات هذا النزاع على اقتصادها، في حين باتت وحدتها مهددة على صعيد سياسي منذ الانشقاق البريطاني، واقتلاع اليمين المتشدد مكاسب انتخابية مباغتة.
 
وفي حين أكدت المفوضة الأوروبية للشؤون التجارية سيسيليا مالمستروم التزامها بخطة العمل متعدد الأطراف. وقالت في مقابلة نشرتها مجلة دير شبيغل الألمانية إن الصين منافس اقتصادي، لكنها لا تمثّل عدوّا سياسيا. وأشارت إلى أن المفوضية لا تتبع نهج ترامب. من ناحية أخرى، يجادل المتشددون الأوروبيون، مثل الأمين العام السابق لحلف الناتو أندرس فوغ راسموسن، بأن على التحالف عبر الأطلسي مواجهة بكين. كما تقدم كل من فرنسا والمملكة المتحدة الدعم العسكري للولايات المتحدة عبر إرسال سفنها للمشاركة في دوريات بحرية غرب المحيط الهادئ.
 
وفي حال قررت أوروبا الوقوف في صف ترامب سيتطلّب نجاح هذه الإستراتيجية الاقتصادية المشتركة والرامية إلى مواجهة الصين، من ترامب احترام حلفاء أميركا والالتزام بوعوده. غير أن هذا يبدو مستبعدا، إذ يهدد ترامب حلفاء بلاده الأوروبيين والآسيويين، موظّفا نفس الأساليب التي يستخدمها ضد الصين.
 
وبعد عام مما يعتبر اندلاعا للحرب التجارية، تبقى كيفية حل الصراع بين واشنطن وبكين أمرا غامضا. وتعتمد النتيجة على المسار الذي سيرى ترامب فيه طريقا ناجعا لإعادة انتخابه. ومن المقرر أن يلتجئ الرئيس الأميركي إلى تشكيل اتفاق مع منافسه في السباق على قيادة العالم، شي جين بينغ، والذي يمكن أن يروّج له كـ”أكبر صفقة على الإطلاق”. ومن المرجّح أن يواصل تصوير الصين كفزّاعة في سعيه إلى الفوز بولاية ثانية. وسيكون من آثار هذه السياسية الأميركية نظاما قطبيا على أوروبا مواجهته خوفا من تآكل نفوذها الدولي.
 
 
 لمواجهة مخاطر أفول النفوذ الأوروبي في ظل الصعود الصيني وسياسية أميركية متقلّبة يبقى خيار الوحدة هو الحل لإعادة تموقع أوروبي، في ظل أوضاع جيوسياسية تعيد نظام الثنائية القطبية إلى الواجهة.
 
لذلك على أوروبا الحرص على وحدتها حتى في أقصى حالات الانقسام. على سبيل المثال فإن الاتحاد الأوروبي كأكبر مانح للمساعدات التنموية في العالم، يمكنه مواجهة مبادرة الحزام والطريق الصينية من خلال شبكة مشروعاته التنموية في أوروبا وأفريقيا. لكن للأسف الشديد يتم إهدار الكثير من الأموال الأوروبية من خلال بنوك التنمية الوطنية مثل صندوق التنمية الأوروبي الموجود في لوكسمبورغ وبنك التعمير الأوروبي، وعلى المفوضية الأوروبية إعادة النظر في هذه الآليات.
 
ويقترح المحلل الألماني أندرياس كلوته إعادة النظر في قواعد التصويت داخل الاتحاد الأوروبي، بحيث يتم التخلّي عن شرط الإجماع لإصدار القرارات والاكتفاء بموافقة 55 بالمئة من الدول الأعضاء التي تضم 65 بالمئة من سكان الاتحاد لإصدار القرار.  وبإمكان هذه القاعدة الجديدة أن تحمي الاتحاد الأوروبي من العجز الدبلوماسي في مواجهة الأزمات الدولية. كما يحتاج الاتحاد الأوروبي إلى تطوير قدراته العسكرية، حيث يقول فريدريك الكبير إن “الدبلوماسية دون قوة عسكرية، مثل موسيقى دون آلات”. وكما قال زيغمار، فإن الفارق بين النباتيين وأكلة اللحوم هو امتلاك أسنان وعلى أوروبا أن يكون لها أسنان.
 
فالاتحاد الأوروبي لا يضم سوى دولتين تمتلكان ترسانة نووية، وهما بريطانيا وفرنسا. وبعد خروج بريطانيا من الاتحاد لن تبقى له سوى فرنسا. ومع ذلك فإن فكرة إنشاء “الجيش الأوروبي الموحد” التي ظهرت قبل عامين تقريبا، تصطدم بمدى استعداد الدول للتنازل عن جزء مهمّ من سيادتها، عندما يتعلق الأمر بقرار إرسال جنودها إلى مناطق الخطر خارج الاتحاد.
 
أخيرا فإنه من حق فون دير لاين وزملائها في المفوضية الأوروبية أن يشعروا بالقلق بشأن الأوضاع الجيوسياسية، فهم يدركون أن أوروبا لن تتحوّل إلى آكلة لحوم لكن على الأقل يمكن أن تتحول إلى “شبه نباتية” بحيث تتمكّن على الأقلّ من عض خصومها وليس افتراسهم.