مَن فوجىء بالحراك الشعبي وحجمه كان يعيش خارج لبنان، ولم يقدّر ما بلغه الوضع من تَردٍ، وخصوصاً أنّ ما حصل في الشارع تزامَن مع صراع سياسي وحكومي خفيّ بلغ الذروة في الكواليس. فقد غابت التفاهمات على أبسط أولويات الإصلاحات وعناوينها، فانفجر الشارع وتحرّك المواطنون بلا قيادة، وإن وجدت، فلكلّ تجمّع محرّكه، في مواجهة حكومة مفككة لا تملك كلمة جامعة. وماذا بعد؟
 

لم يحجب دخان الدواليب وما انبعث من حاويات النفايات المحروقة التي غطّت سماء بيروت والمناطق، بعد أيام على حرائق الجبال الخضراء، الاهتمام الديبلوماسي والسياسي بما جرى في لبنان في الساعات الـ48 الماضية من مظاهر الغضب الشعبي، وما تسبّبت به صيحات المتظاهرين التي ملأت الشاشات في غياب المواقف وردود الفعل الرسمية التي كانت مطلوبة لتكون بحجم ما فَرضته التحركات الشعبية من استحقاقات سياسية واقتصادية، أقلّها دعوة الحكومة الى الاستقالة في مثل هذا التوقيت الدقيق.

على وقع كل ما يجري، إنشغلت المراجع الديبلوماسية والسياسية بداية في قراءة الحراك الشعبي بحثاً عن قيادته وهويتها، بعد سلسلة من التحركات في نهاية كل أسبوع أظهرت أنّ هناك قيادات جديدة للحراك لم تكن بارزة من قبل، لا في تلك التي رافقت أزمة النفايات والمطامر ولا في الحراك الذي واكَب أزمة الكهرباء. فباستثناء مسؤولين عن جمعيات محدودة ما زالت تؤدي دوراً شعبياً تَعبوياً منظّماً، فقد انتهت أدوار كثر وغابت جمعياتهم وتجمعاتهم عن ساحات التظاهر.

فحتى ساعات المساء أمس، لم تكن مراجع عدة أمنية وسياسية وديبلوماسية قد توصّلت الى تحديد هوية قيادة موحّدة تُدير الحراك، وخصوصاً بعدما انفجر الشارع وتوسّعت رقعة التظاهرات من بيروت الى مختلف المناطق اللبنانية من دون استثناء، فلم تبقَ منطقة من أقصى شمال البلاد الى جنوبها، ومن أطراف البقاع الى عمق جبل لبنان ساحلاً وجبلاً، إلّا وتحركت. وباستثناء الصمت المطبق لدى قيادة «التيار الوطني الحر» و»تيار المستقبل» دون غيرهما من أحزاب السلطة، فقد برزت الدعوات الى التظاهر التي أطلقتها الأحزاب على وَقع انفجار شعبي بعيد كل البعد عن الوجه الحزبي المعتاد. وباستثناء حزب الكتائب، الموجود خارج السلطة والتركيبة الحكومية، الذي دعا مناصريه الى الشوارع بعدما أعلن حال الاستنفار القصوى في مختلف الأقاليم والأقسام الحزبية، وأبقى اجتماعات مكتبه السياسي مفتوحة ويومية، فقد وجّهت قيادات الأحزاب الأخرى كـ»التقدمي الإشتراكي» و»القوات اللبنانية» دعوات مماثلة الى التحرك، مع الحرص على إبقاء الأعلام اللبنانية وحيدة في الساحة منعاً لأيّ احتكاك مُحتمل.

وبعيداً ممّا يمكن أن يؤدي إليه الحراك، وأيّاً تكن ردود فعل أهل الحكم والحكومة، فقد طرحت أمس على هامش الإتصالات السياسية سلسلة من الهواجس لمرحلة ما بعد هذا الحراك، أيّاً كان المدى الذي يمكن أن يتخذه شعبياً وأمنياً وما يمكن أن يؤدي اليه. فالرهان على استعادة الهدوء بالسرعة التي كان يتمناها البعض تضاءَل نتيجة سلسلة من النصائح والمواقف التي دعت رئيس الحكومة الى التَريّث في اتخاذ اي خطوة تدفع الى الاستقالة. فالمرحلة وما يحيط بها من الداخل والخارج لا تحتمل أي خطوة من هذا النوع، وهو ما دفعَ رئيس الحكومة الى التردّد في توجيه رسالته الى اللبنانيين طيلة نهار أمس، وأرجىء موعد توجيهها غير مرة ابتداء من لحظة إلغاء جلسة مجلس الوزراء بعد الظهر، وبعد التشاور مع رئيس الجمهورية، وحتى بداية الليل.

على كل حال، وباستثناء كل ما رافق تظاهرات الأمس من مظاهر الرفض الشعبي وردود الفعل السياسية التي لا يمكن أن تُقاس بحجم ما بلغته الأزمة، فقد توجّهت الأنظار الى ما يمكن أن تؤدي اليه تطورات الساعات المقبلة، والتي يجب قياسها بحجم المهلة التي أعطاها رئيس الحكومة سعد الحريري الى شركائه في التسوية والحكومة للخروج من المأزق، والتي حدّدها بـ 72 ساعة ابتداء من مساء أمس الجمعة.

وعليه، وقبل أن تمر الساعات الـ 72 المقبلة، فقد طرحت سلسلة من الأسئلة انطلاقاً من المعادلة البسيطة التي قاد إليها موقفا وزير الخارجية جبران باسيل من منبر قصر بعبدا، وتلك التي أطلقها الحريري من السراي الكبير، واللذان التقيا على التورية في تبادل الرسائل. فتركيز الأول على أنّ العهد مُستهدف ولم يسمح له بأن يقوم بالخطوات الإنقاذية التي أرادها. أدّى الى تعبير الحريري، بالطريقة عينها، عن العقبات التي حالت دون تطبيق ما هدفت اليه التسوية السياسية التي أدّت الى ولادة العهد الجديد، ومن دون تحقيق ما يطالب به المجتمع الدولي لمساعدة لبنان للخروج من المأزق القائم. لذلك، ظهر واضحاً أنّ الخطابَين لم يلبّيا أيّاً من مطالب الشارع المنتفِض، ولا يمكن لأيّ منهما أن يؤدي الى خروج الناس من الشوارع، وهنا يكمن المأزق الحقيقي في حال طال الحراك الشعبي.

وفي ظل هذه المقاربات المختلفة، صار واضحاً أنه إذا لم تُدعَ الحكومة في الساعات المقبلة الى اجتماع طارىء، لتُطلق آلية عمل جديدة لمقاربة الأزمة القائمة بشكل يوحي للناس المنتفِضة في الشوارع أنّ هناك مخرجاً جدياً يقود الى الخروج من الأزمة المتعددة الوجوه، فإنّ الحراك سيقود الى ما لا تُحمد عقباه.

وعليه، وفي حال استحالة الوصول الى مخرج، فإنّ الوصول الى صباح الإثنين المقبل من دون تحقيق ما يُرضي الناس، من المتوقع أن يخضّ الأسواق المالية خضّة كبيرة قد لا يحتملها اللبنانيون، وعندها يمكن الحديث عن مسار جديد ستتخذه الأزمة في اتجاه ما هو مجهول أكثر مما هو مُمكن تقديره من اليوم.