ليس سهلاً على المراجع السياسية والديبلوماسية إجراء قراءة نهائية لِما جرى في الشمال السوري منذ 9 أيام. فالعملية التركية ضد الأكراد أطلقت دينامية عسكرية وديبلوماسية جديدة قادت الى أكثر من سيناريو، وأبرزها اعتبرَ أنّ «الطَحشة» التركية جاءت استباقاً لترجمة تفاهم أميركي - روسي عُقد بسِريّة مُطلقة لتقاسم النفوذ، وكي يحجز الرئيس التركي رجب طيب اردوغان مكاناً له في المعادلة. فهل سينجح أم سيكون من بين ضحاياها؟
 

قراءات متناقضة لِما يجري في الشمال السوري، والثابت أنّ هناك تطورات عسكرية جديدة شكّل الإصرار التركي على المضيّ في العملية العسكرية في الشمال السوري رغم المواقف الرافضة التي تلقّتها أنقرة من الخصوم، كما الحلفاء في آن، عنواناً لمرحلة جديدة كرّسها التوَغّل التركي في الأراضي السورية. وفي مقابل كل التوقعات باحتمال وقوع حال من الفوضى المدمّرة، جاء التفاهم بين الأكراد والنظام السوري على نشر الجيش السوري في المناطق التي كانت هدفاً للعملية التركية، وأدّى الى نوع جديد من «الستاتيكو» لم يكتمل بعد.

الجميع يتذكرون عملية «درع الفرات» التي قام بها الجيش التركي قبل عامين بضوء أخضر روسي، والتي توقفت على مداخل مدينة منبج الإستراتيجية بخطوط حمر أميركية، عندما وضعت المدينة تحت سيطرة قوة مشتركة أميركية وكردية، وأنشأت لها إدارة محلية ساعدتها على إدارة المنطقة حتى إخلائها قبل ايام. فاقتصرت آنذاك إنجازات أنقرة بالسيطرة على المنطقة الممتدة من عفرين غرباً الى مدينة جرابلس شرقاً وبعمق يزيد على 40 كيلومتراً، من دون أن تصل الى مجرى نهر الفرات، كما كانت تريد.

وبعد أن أخلى الأميركيون مدينة منبج ومحيطها أمس الأول لقوات سوريا الديموقراطية وحدها، تَبدّلت موازين القوى بتسليمها مباشرة الى الجيش السوري مع مجموعة كبيرة من الخبراء الروس الذين رافقوا عملية الإنتشار فيها. ولم يكتمل المشهد الجديد بهذه الخطوة، فقد وَسّع الجيش السوري مناطق انتشاره الى مجموعة المدن والقرى، وصولاً الى مدينتي الحسكة والقامشلي وما بينهما من طرق دولية وجسور استراتيجية كان الجيش السوري يحلم في الوصول إليها فأتَته على طبق من ذهب.

تلتقي تقارير ديبلوماسية على اعتبار أنّ هذه الوقائع من المؤشرات التي دَلّت الى حجم ما بَلغته التفاهمات الأميركية - الروسية، التي نسجَت بمعزل عن باقي الفرقاء الذين يتفرجون على ما يجري بصمت وذهول، باستثناء الأتراك الذين حاولوا استباق هذا السيناريو فاستعجلوا دخول ما أمكَن من أراض سورية في سباق مع الوقت ونشر الجيش السوري على كامل الحدود السورية - التركية.

وما دلّ على إمكان وجود مثل هذا التفاهم الإنسحاب الذي أمرَ به الرئيس الأميركي دونالد ترامب لقوّاته من المنطقة في ساعات قليلة وتدمير المنشآت التابعة لها، مُتزامناً مع سلسلة من الانتقادات الساخرة لحلفائه الأكراد مَمزوجة بالكثير من الاتهامات. فإلى اتهامهم بفَتح السجون والمخيمات المخصّصة لمقاتلي «داعش» وعائلاتهم لاستدراج بلاده الى حيث لا يريد أن يبقى، طالت اتهاماته أيضاً نظيره التركي من دون أن تسجّل له ولأيّ من المسؤولين الأميركيين أي إشارة الى نتائج انسحابهم من المنطقة الذي صَبّ في خانة المحور المناهض له من موسكو الى طهران فدمشق.


عند هذه المعطيات تتوقف مراجع ديبلوماسية وعسكرية في قراءتها للعملية التركية العسكرية، فتطرح احتمالات عدة أبرزها وأقربها الى واقع الأمور القول إنّ الرئيس التركي كان على عِلم بما هو متوقّع من تفاهمات روسية - أميركية عميقة، كانت قد بلغت مسامعه من أكثر من طرف. لذلك عمدَ بخطوته الأخيرة الى استباق نتائجها الكارثية التي تُلغي حتماً أي دور لأنقرة في المنطقة.

وجَازف بعمليته العسكرية من دون إبطاء ولو ليوم واحد، ليحفظ لنفسه موقع قدم داخل الأراضي السورية أيّاً يَكن حجمه. واختار لهذه الغاية شعاره الدائم لتبرير زَجّ الجيش فيها، بأنها تهدف الى مواجهة الإرهاب وحفظ الامن القومي التركي الذي يهدده إرهابيو «حزب العمال الكردستاني»، وقطع الطريق على محاولات عزله.

عند هذه الخلفيات، فَسّرت هذه المراجع إدارة أنقرة ظهرها لكل الانتقادات التي تعرّضت لها، رافضة «بسخف ملحوظ» سلسلة النصائح وبرامج العقوبات الفورية التي فرضتها كلّ من المانيا وايطاليا وفرنسا بعد الولايات المتحدة الأميركية، بوقف كل برامج بَيع الأسلحة للجيش التركي قبل وقف العملية العسكرية. كما أنه لم يحتسب للتحذيرات التي تتخوّف من عمليات نزوح بشرية قَدّرتها المؤسسات الأممية بأكثر من 230 ألفاً من السوريين في أيامها الخمسة الأولى، ومئات الضحايا والجرحى المدنيين.

وبناءً على ما تقدّم، لا يَسع المراجع الديبلوماسية والعسكرية إلّا التوقف عند الترسيم الجديد للمنطقة الآمنة، كما وَصفه أردوغان أمس. فرغم أنباء انتشار الجيش السوري في منبج وبعض المدن في الحسكة والقامشلي، فقد اعتبر أنّ ما يريده لها هو أن تَمتد من مدينة منبج غرباً الى مثلّث الحدود السورية - التركية - العراقية شرقاً.

ولذلك، توقفت أيضاً عند مضمون تصريحات الموفد الروسي الخاص الى سوريا، ألكسندر لافرنتييف، التي أطلقها من ابو ظبي أمس الأول، وأكّد فيها «أنّ روسيا لن تسمح بمواجهات بين الجيشين التركي والسوري»، مضيفاً أنّ «مثل هذه المواجهات ستكون غير مقبولة ولا تصبّ في مصلحة أحد، ولن نسمح بأن تصل الأمور الى هذا الحد».

وتختم هذه المراجع أنّ كل هذه المواقف والتطورات ستفرض وجود تطورات عسكرية جديدة، تدعو الى فترة إضافية من الانتظار لفَهم النتائج المترتبة على العملية التركية ونتائجها وسط خيارَين أساسيين: أوّلهما، هل ينجح اردوغان في حفظ دور بلاده في ظل التفاهمات الأميركية - الروسية المفترضة؟ أم أنه سيكون أوّل ضحاياها؟ إنّ غداً لناظره قريب لإثبات أيّ من الخيارَين سيتحول أمراً واقعاً جديداً.