العراقيون، أو من بقي منهم، لا يملكون القوة لفعل أي شيء. والمحترمون فيهم قلة قليلة للغاية. ولكنهم يمكن أن يكونوا رأس حربة لإعادة بناء العراق على أسس صالحة للحياة.
 

فشل حكومة عادل عبدالمهدي، على غرار كل الحكومات السابقة، يدفع بعض أركان “العملية السياسية” في العراق إلى الدعوة لإعادة تشكيل “مجلس حكم” جديد، على غرار مجلس بول بريمر.

لقد تأسس ذلك المجلس على معايير احتلال. والمجلس الجديد، إذا كتب له أن يظهر، فإنه سوف يتأسس على معايير احتلال أيضا. وكما هو حال كل حكومات إدارة الفشل المتعاقبة، فإن الفشل نفسه سيظل يعود ليتكرر، حتى ليجدر بالمرء أن يتساءل: كم مرة يجب أن تخبط رأسك بالحائط لتعرف أنه حائط؟

عراق اليوم، كما عراق بول بريمر، مجرد إقطاعية إيرانية ينهشها الفقر والتخلف العقلي والانحطاط. والبحث عن حل يتطلب مقاربة أخرى؛ حائطا آخر على الأقل، وذلك بمقدار ما يتطلب قراءة موضوعية ومتجردة للواقع.

العراق اليوم خاضع لاحتلال إيراني شرس. إنه واحد من أنواع الاحتلالات التي يمارسها بعض أهل البلد لحساب بلد آخر. سمهم ما شئت. التسميات لا تهم على الإطلاق. فالنتيجة واحدة دائما. إنها ميليشيات وأحزاب، تدين بالولاء لإيران وتمتثل لمصالحها. ولئن اختلفت فيما بينها، فلأنها تخوض في لعبة كراسي موسيقية، فيحل أحدها محل آخر، لتبقى النتيجة هي ذاتها دائما.

عندما جاء الأميركيون لاحتلال العراق، كانوا يعرفون أنهم سيكونون بحاجة إلى كائنات من هذا النوع، في مواجهة قوة وطنية محلية سوف يتم جرحها بعمق. فقدّمت إيران ما لديها. وكان عملاؤها جاهزين أصلا، ومجندين بفرق. وحصل التوافق: أولا على تفكيك الدولة. وثانيا على تدمير مؤسسة الجيش واستبدالها. وثالثا إقامة نظام طائفي يتوزع على حصص. ورابعا تمويل أحزاب وميليشيات جديدة (من عائدات نظام النفط مقابل الغذاء التي راكمت عشرات المليارات في خزائن الأمم المتحدة). وخامسا بناء “منظمات مجتمع مدني” مزيفة ومأجورة، إلى غير ذلك من التفاصيل الأخرى.

المشروع قام من الأساس على نظرية وضعها “المحافظون الجدد” في الولايات المتحدة، تقول بمبدأين: “بناء دولة ضعيفة وشعب قوي”، و”إعادة الشعب إلى مكوناته الأصلية” (بمعنى تفكيكه، لتتصارع مكوناته مع نفسها وفيما بينها).

لقد كان ذلك هو “العراق الجديد”. وكان عراق قهر ومظالم طائفية، وفساد عميم، وانحطاط ثقافي، وجهالة سياسية، وانهيار اقتصادي، يقوم في الأساس على نهب موارد الدولة. وفي الوقت نفسه خاضع لقوة حماية خارجية، تحولت تدريجيا إلى قوتين تمارس كل منهما نفوذها الخاص. وكان من الطبيعي للتفكك أن يُسفر عن كل ما نعرفه اليوم عن العراق. حتى أصبح مستنقعا فوّاحا بكل معاني العفن. تهيمن عليه إيران، ولم تعد تملك الولايات المتحدة فيه، إلا حصة محدودة ومتآكلة.

هذا الانقلاب دفع قطاعات واسعة من العراقيين، المأخوذين بانتمائهم الوطني السابق، وفي مقدمتهم البعثيون، إلى قيادة مقاومة ضارية ضد الاحتلال. ولقد حققت الكثير جدا، حتى أجبرت القوات الأميركية على انسحاب الجزء الأكبر منها. ليبقى رهان واشنطن قائما على أحزاب وميليشيات إيران التي أثبتت أنها أكثر ضراوة في العنف وأقل تكلفة.

المقاومة تمزقت. وتم شراء بعضها باتفاقات ضمنية. الأساسي منها: عدم التعرض لخطوط إمدادات النفط. قيل لهم افعلوا ما شئتم. واضربوا في كل مكان، بما في ذلك القوات الأميركية نفسها. ولكن لا تدمروا خطوط النفط. انطلت الحيلة. وكان الهدف منها: المحافظة على تمويل النظام في “العراق الجديد”. وفي النهاية لم يسع تلك المقاومة أن تتغلب على الميليشيات الإيرانية، التي أظهرت استعدادا لارتكاب كل ما يسعها من أعمال وحشية، يدعمها حقد طائفي، ونزعة انتقام إيرانية شرسة، وأيديولوجيا دموية تمارس شعائر صفوية، وتنظر إلى خلق الله باعتبارهم جزءا من معركة قديمة لم يُكتب لأسلافهم فيها النصر، حتى أصبح الانتقام واجبا دينيا على الأحفاد، وكلما تم قتل أحد أو تهجيره أو اغتصاب أهله، كان الأمر بمثابة زلفى إلى الحسين بن علي بن أبي طالب.

لقد كان ذلك هو أول الداعشية، قبل أن تولد الداعشية الأخرى بعدة سنوات.

العراق اليوم بلد محطم. ولا يوجد فيه شعب، بل مجرد طوائف متصارعة. وفي داخل كل طائفة توجد قبائل سياسية متصارعة أيضا. والدم فيما بينها بلغ عنان السماء. وهو لا يملك قوى سياسية محترمة. المحترمون ماتوا، أو هاجروا، وتراجعت أعدادهم إلى درجة أنهم لم يعودوا سوى أفراد قلائل، يتصارعون هم أيضا على أفكار وتصورات لا تملك قوة تأثير حقيقية. وفي حين لا يزال العراق يمتلك موارد اقتصادية هائلة، فإن موارده منهوبة. وهو خاضع لاحتلال إيراني أعمى البصيرة، متخلف عقليا، همجي، ويستند إلى ميليشيات وعصابات لا يمكن ضبطها. تصنع الخراب، وتجد له تبريرا دينيا، وتعتبره جزءا من متطلبات “عودة المهدي المنتظر”، لتمثل نموذج التفاهة القصوى، وبلا حدود، ولكن خطرة للغاية.

هذا وضع ليس في صالح أحد. وإذا كان “العراق الجديد” نشأ لضمان أمن إسرائيل، فإنه ليس في صالح إسرائيل أيضا، دع عنك الولايات المتحدة التي دفعت ثمنا باهظا (تجاوز تريليوني دولار وخمسين ألف مجند بين قتيل وجريح) لتجد نفسها وقد تحولت إلى لاعب ثانوي، بالكاد يستطيع ضمان بعض مصالحه الاقتصادية.أما السياسة فترسمها طهران.

انطلاقا من العراق، تحولت إيران إلى إمبراطورية دينية تهيمن على أطراف واسعة من المنطقة، وتتدخل أينما تشاء بميليشيات قليلة التكاليف، كثيرة الوحشية، وغير منضبطة.

وهذا خطر كبير. وجود إمبراطورية دينية هو في الواقع تهديد حقيقي للنظام الدولي برمته ولكل قوة فيه، حتى لو بدا أن بعض القوى الدولية تستطيع أن تحقق فوائد ثانوية منه.

مشروع تمزيق الدول المحيطة، الذي دافعت عنه إسرائيل، عن طريق تنظيمات دينية تمولها قطر، فشل هو الآخر؛ بمعنى أنه لم يعد صالحا للتبني كإستراتيجية جديرة بالبقاء. وصار من الواجب العثور على بديل أكثر إيجابية لها، من وجهة نظر الولايات المتحدة على الأقل.

إذا أمكنت العودة لإعادة بناء هذه المنطقة على أسس متحضرة، فإن هذه العودة لن تتحقق، ولن تترك أثرا فعليا، إلا انطلاقا من العراق. من ناحية بسبب موقعه الجغرافي الملاصق لإيران. ومن ناحية أخرى، بفضل موارده التي إذا ما أمكنت إعادة توظيفها، فإنها يمكن أن توفر فرصا هائلة للازدهار. وهو ازدهار لن يقتصر في أهميته على “الشعب” العراقي (عندما يعود ليكون شعبا)، ولكنه سوف يمتد إلى كل شعوب المنطقة الأخرى.

من المؤسف تماما القول إن العراقيين المحترمين غير قادرين على إنقاذ العراق، ولا حتى أنفسهم. وهم يصارعون وحوشا كاسرة، على نحو أسطوري بالفعل. وما من عاقل يستطيع الافتراض أنهم يستطيعون التغلب على ميليشيات إيران، ولا على مصادر ضعفهم. هذا وهم كبير.

إعادة انتداب العراق، بإشراف دولي ومراقبة أممية، على أسس بناء جديدة، سوف توفر للجميع مصالحهم، وتقضي على الخطر.

الأمر سوف يبدو مجرد فنتازيا. إذ من يمكنه أن يموّل وجود قوة انتداب؟ ومن أجل ماذا؟ ولماذا يقبل أي أحد المغامرة أصلا؟

المصالح، تظل مصالح على أي حال. وإيجاد سبيل لشراكة منصفة أمر ممكن دائما. ففي مقابل بلد آمن، مزدهر، يوفر حياة كريمة لمواطنيه، فإنه يمكن لكل الذين يساهمون في إعادة بناء هذا البلد أن يحققوا ازدهارا لأنفسهم أيضا. لا عيب في ذلك.

هذه “الفنتازيا” أكثر واقعية من الفنتازيا التي قادت إلى احتلال العراق، وأدت إلى كل ما أدت إليه من خسائر وكوارث.

وعندما توضع معايير سليمة لإعادة البناء السياسي والاقتصادي والأخلاقي، فإن الطريق سوف يغدو واضحا، وسوف يستنهض الكثير من القدرات المكبوتة، ويزيل الخوف من مواجهة الوحوش الكاسرة.

كل الذين يقفون على النقيض السياسي لإيران يمكن أن تكون لهم مصلحة بذلك. على الأقل، لأن مواجهة التوسع الإيراني الراهن تكلفهم الكثير.

يحتاج الأمر إلى سعة أفق، وإلى نظرة متفائلة بالإمكانيات الفعلية لعراق مختلف. كما أنه يحتاج إلى مقدار من الثقة، إذا ما أقيمت على معايير عريضة متحضرة، واضحة، ومعلنة.

الدول الدينية، تنحو بطبيعتها لتكون إمبراطوريات. وهي مصدر لكل شر ينشأ داخليا كرد فعل لها. داعشية تولّد أخرى، وهكذا. ويعرف الكل ما هو الثمن الذي يمكن للعالم أن يدفعه بسببها. إنها ردة فعلية، وانتكاس حقيقي لكل قيم التحضر الإنساني. والعراق الإيراني الراهن هو نموذج لطبيعة الانحطاط الذي يمكن توقعه منها، أينما حلت.

العراقيون، أو من بقي منهم، لا يملكون القوة لفعل أي شيء. والمحترمون فيهم قلة قليلة للغاية. ولكنهم يمكن أن يكونوا رأس حربة لإعادة بناء العراق على أسس صالحة للحياة. وهم بحاجة فعلية إلى عون من الخارج. هذا واقع جارح طبعا. ولكنه واقع، ويجب الاعتراف به. أي شيء آخر سوف يتطلب قرنا من الزمان. وهو ما قد يعني للسيف أن يسبق العذل، فيكلف الكثير. العالم كله بحاجة إلى عراق آخر. مصالحه الاقتصادية، واستقراره الأمني، يتطلبان ذلك.