النظرية هي ذاتها النظرية. وهي هنا تقول: دعوا المرض يتفشى، ثم موتوا في منازلكم. تلك هي المحرقة التي يقترحها أرعن مثل بوريس جونسون. وما من أحد قادر على أن يوقفه، فأغلبيته ساحقة.
 

حصد بوريس جونسون في انتخابات ديسمبر الماضي البرلمانية البريطانية، أغلبية ساحقة تكفي لفعل كل شيء وقول أي شيء، بما في ذلك تهديد حياة البشر.

هذا الأمر ليس جديدا على الديمقراطيات الغربية. أدولف هتلر فاز بأغلبية ساحقة من قبل، فقاد بلاده إلى حرب قضت على أكثر من 50 مليون إنسان. توني بلير، قاد سلطة حزب العمال في بريطانيا بأغلبية كبيرة، فقاد بلاده لغزو العراق، ودماره. ومثله فعل جورج بوش، الأب والابن.

النماذج الهتلرية للديمقراطية ليست بعيدة عن ثقافة دونالد ترامب نفسه، الذي بدأ رئاسته بسلسلة من السياسات العنصرية ضد المهاجرين والمسلمين، قالت ما قالته النازية ضد اليهود. الأصل واحد، والأوجه مختلفة. وأصل الأصل في هذا وذاك، هو الاستهانة بحياة البشر وفقا لافتراضات نظرية، أو مفاهيم أيديولوجية، تتحول إلى قناعات راسخة، وسياسات لا تأبه بالتفاصيل.

“دعوني أكون صريحا معكم. سوف نخسر حياة الكثير من أحبائنا في وقت غير وقتهم”. هذا ما قاله جونسون لدى تقديمه لسياسة حكومته في مواجهة تفشي فايروس كورونا.

الجرأة في القول “إن هناك أناسا كثيرين سوف يموتون” لم تستند إلى تقدير متأسف حول أعداد الضحايا ممن لن تتوفر المساعدة اللازمة لإنقاذهم، وإنما استندت إلى نظرية، أقنعه بها واحد من علماء النازية المعاصرين. إنه السير باتريك فالانس كبير المستشارين العلميين للحكومة.

تقول النظرية، التي تدعى “مناعة القطيع”، إنه عندما يصاب عدد كبير من الأشخاص الأصحاء، فإنهم سوف يبنون لأنفسهم مناعة ضد المرض، وهو ما يمكنه أن يشكل جدار حماية للأشخاص الأكثر ضعفا. وهو ما يعني قبول تفشي المرض، بدلا من اتخاذ إجراءات للحد منه. فلكي تبني للقطيع (الشعب البريطاني) مناعة ذاتية، فإن المرض يجب أن يتفشى، وليقتل من يقتل، ولكن النتيجة سوف توفر للقطيع القدرة على مقاومة المرض في مراحله اللاحقة.

229 عالما يعملون في مختلف الجامعات البريطانية قالوا إن هذه النظرية ستضع خدمات الصحة العامة تحت ضغط إضافي، وتخاطر بحياة عدد كبير من البشر قد يصل إلى عشرات الآلاف. وقالت مجموعة العلماء، في رسالة إلى الحكومة، إن هذه الاستراتيجية تعني أنه في المملكة المتحدة وحدها سيحتاج 36 مليون شخص على الأقل إلى الإصابة والتعافي.

ويليام فون شايك، بروفيسور الأمراض المعدية في جامعة برمنغهام، وأحد الذين وقعوا الرسالة، قال “يكاد يكون من المستحيل التكهن بما سيعنيه ذلك من حيث التكاليف البشرية. ولكن حسابا متحفظا قد يعني عشرات الآلاف من الضحايا، وربما مئات الآلاف من الوفيات”.

المتحدث باسم وزارة الصحة قال في الرد على احتجاجات العلماء، إن تعليقات السير باتريك أسيء تفسيرها. وأضاف “إن مناعة القطيع ليست جزءا من خطة عمل الوزارة، ولكنها نتاج ثانوي طبيعي للوباء”.

استراتيجية “مناعة القطيع” أقنعت الحكومة البريطانية، على أي حال، بعدم تعطيل المدارس، حتى إن إدارات المدارس أرسلت رسائل تهدد أهالي الأطفال باقتيادهم إلى المحاكم إذا ما أجبروا أطفالهم على عدم الذهاب إلى المدارس.

 

وبالنظر إلى أن الأطفال هم أكبر ناقل للمرض وأقل من يصاب به بسبب طبيعة نظام المناعة الذاتية لديهم، فإن تلك الاستراتيجية تكاد تعني القول: دع الأطفال ينقلون المرض، لكي يبني المجتمع مناعة القطيع. الملكة إليزابيث الثانية، ليست من القطيع، الذي تشمله نظرية فالانس، ولقد آثرت مغادرة قصر باكنغهام تحاشيا للإصابة، وتحاشيا للتمتع بمناعة يوفرها القطيع.

 

يبلغ عدد الذين يعيشون في بريطانيا 66 مليونا. ووفقا لكبير الأطباء في إنجلترا، البروفيسور كريس ويتي، فإن أسوأ سيناريو هو أن حوالي 80 في المئة من سكان المملكة المتحدة يصابون بالعدوى. وبالنظر إلى أن معدل الوفيات بالمرض يتراوح بين 1 و3.6 في المئة، فإن الحد الأدنى المحتمل للوفيات، في حال السماح للمرض بالتفشي، وفقا لنظرية فالانس، سوف يبلغ 660 ألف ضحية. وهذا رقم أكبر من عدد الذين تم حرقهم في أفران معسكر أوشفيتز من اليهود.

 

لا يوجد علاج للمرض. هذا أمر واضح. وأنظمة الخدمات الصحية لا تملك القدرة على توفير أجهزة التنفس الاصطناعي للمصابين، بوصفها الوسيلة الوحيدة لمساعدتهم، لعلهم يتغلبون على المرض إن لم يتغلب عليهم. إيطاليا وجدت نفسها بلا أجهزة كافية. فقررت أن تترك كبار السن يموتون لعلها توفرها لمن هم أصغر سنا. وما هذه إلا مجزرة. المجتمعات لم تبن نفسها كمجتمعات متحضرة لتتصرف على هذا النحو.

 

الحل الوحيد هو: العزل التام والشامل، ريثما يتم العثور على لقاح. دون ذلك، فإن الضحايا سوف يسقطون في الشوارع كالذباب، أو يموتون بصمت في منازلهم، كما تقترح إجراءات خدمات الصحة العامة في بريطانيا التي تطلب من المصابين عزل أنفسهم، وعدم الاتصال بخدمات الإسعاف إلا بعد أسبوع من ظهور أعراض المرض.

 

يعرف فالانس ذلك. وهو يبرره بالقول إن الغاية منه هي إبطاء تفشي المرض إلى الحد الذي يسمح لخدمات الصحة الوطنية بمواكبة الاحتياجات.

الصين حاصرت مركز تفشي المرض على نحو لم تفعله إيطاليا إلا متأخرا. وإقليم هوبي الذي يقارب عدد سكانه عدد الذين يعيشون في بريطانيا، أصيب منهم نحو 80 ألفا، وقضى نحو 7 آلاف شخص. إنما بفضل إجراءات الحصار المشددة. ولولاها لأصيب أكثر من نصف مليون وتوفي أضعاف ذلك الرقم.

اليوم تبدو الصين في وضع آمن نسبيا. لأنها اتخذت إجراءات ضحّت بالمال والميزات الاقتصادية من أجل الحفاظ على حياة البشر. كانت تلك هي الغاية الوحيدة. لم تكن هناك نظريات. ولا حسابات باردة لعلماء مرضى في ضمائرهم. ولا كان هناك سياسيون يعتمدون على أغلبيتهم الساحقة لكي تبرر لهم القول “سوف يموت الكثير من أحبائكم في غير وقتهم”. لقد ضحى هتلر بملايين البشر انطلاقا من نظرية حمّلت اليهود، كل اليهود، مسؤولية هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، قبل أن تتطور إلى “تفوق العرق الآري”. يكفي عالم ينظر إلى مواطنيه على أنهم قطيع، ويجري حسابات تتوافق مع سياسيين مطمئنين إلى أغلبيتهم الساحقة، ويتصرفون باستهتار واستعلاء، لكي يحول نظريته إلى مشروع إبادة جماعية، تستند إلى “تفوق أنظمة المناعة الذاتية”.

النظرية هي ذاتها النظرية. وهي هنا تقول: دعوا المرض يتفشى، ثم موتوا في منازلكم. تلك هي المحرقة التي يقترحها أرعن مثل بوريس جونسون. وما من أحد قادر على أن يوقفه. فأغلبيته ساحقة.