إدراج «جمّال ترست بنك» على لائحة «أوفاك» الصادرة عن وزارة الخزانة الأميركية، جاء بمثابة رسالة سياسية في لحظة دولية وإقليمية دقيقة. هذا الاستنتاج مدعّم بتصريحات متناقضة لمساعد شؤون الاستخبارات المالية في وزارة الخزانة مارشال بيلنغسلي، ومدعوماً بالحفاوة التي تعاملت بها السفارة الأميركية في لبنان مع المصرف وتعاونه مع وكالة USAID!

 

فيما انشغل المعنيون في «جمّال ترست بنك» وخارجه، في استيعاب الصدمة الناتجة من إدراج المصرف وثلاث شركات تابعة له على لائحة «أوفاك» للعقوبات الأميركية، كان مساعد وزير الخزانة لشؤون الاستخبارات المالية مارشال بيلنغسلي يصدر بياناً سياسياً وقحاً عن علاقة المصرف «الفاسدة والشائنة» مع حزب الله، مسترسلاً في إعطاء التعليمات للحكومة اللبنانية عن «تجميد المصرف وإغلاقه وتصفيته وحلّ ديونه المستحقة الشرعية». حاكم مصرف لبنان رياض سلامة استجاب سريعاً للتعليمات الأميركية، وصرّح بأن «الودائع الشرعية (في «جمّال ترست بنك») مؤمّنة في وقت استحقاقاتها، كأنه يقرّ بأن هناك ودائع غير شرعية في المصرف، تاركاً لبيلنغسلي تحديد ما هو شرعي وغير شرعي في لبنان.

كان لافتاً أن قرار وزارة الخزانة الأميركية بإدراج «جمّال ترست بنك» وثلاث شركات تابعة له على لائحة «أوفاك»، تسرّب قبل ساعات من صدور القرار نفسه، ليتبعه بعد ساعات تصريح بيلنغسلي لجريدة «النهار» عن الاتهامات المساقة ضدّ المصرف من وزارة الخزانة الأميركية، وتوجيه تعليماته للحكومة اللبنانية بوجوب «تأمين مصلحة أصحاب الحسابات غير المنتسبين لحزب الله بأسرع وقت»… الكثير من الاتهامات التي وجّهها بيلنغسلي للمصرف وعلاقته المزعومة مع حزب الله، تتناقض مع ما قاله في 24 كانون الثاني 2018 في مؤتمر صحافي عقده في بيروت. يومها صرّح «المارشال» الأميركي بأنه «لن توجّه أي عقوبات ضدّ المصارف» وتبنّى كلاماً منقولاً عن المصارف الأوروبية والأميركية بأن «المصارف اللبنانية آمنة وخالية من أي تحويلات مشبوهة».
ما وقع فيه بيلنغسلي أوحى بأن وزارة الخزانة الأميركية سحبت من درج الاتهامات ملف «جمّال ترست بنك» في لحظة سياسية دولية وإقليمية دقيقة، ولا سيما أن تصريحه الأخير طغى عليه الطابع السياسي من دون تقديم دلائل. فالعلاقة المزعومة بين المصرف وحزب الله، بحسب ما ورد في بيان وزارة الخزانة، تعود إلى منتصف عام 2000، وهي علاقة ليست متصلة بعمليات تبييض أموال، بل بفتح حسابات لمؤسسات اجتماعية تدفع رواتب موظفيها ومساهميها من خلال المصرف، علماً بأنه لم يؤكد أو ينفِ بقاء هذه الحسابات مفتوحة أو إغلاقها ربطاً بما حصل بعد إدراج البنك اللبناني الكندي على لائحة أوفاك وما تلاها في السنوات اللاحقة من عمليات إغلاق حسابات، أو الامتناع عن فتح حسابات لمؤسسات وأفراد ورجال أعمال شيعة بشكل عام.
وربطاً بهذا الأمر، كان مقلقاً أكثر اعتماد سلامة التصنيف الأميركي للحسابات الشرعية وغير الشرعية، إذ لم يكشف الأميركيون عن مصدر معلوماتهم عن العلاقة المزعومة والدليل الذي «يدين» بنك الجمال، وما إذا كانت هيئة التحقيق الخاصة في مصرف لبنان والتي يرأسها سلامة، تبلغت مسبقاً بالتدقيق الذي تجريه وزارة الخزانة عن حسابات في بنك الجمال، وما إذا سلّمتها أي معطيات بهذا الشأن.


هناك وقائع إضافية تكشف عن «غدر الأميركيين» بالمصرف، إذ كان «جمّال ترست بنك» يحاول نسج علاقات إيجابية مع السفارة الأميركية في بيروت، واعتبر أنه نجح في هذا الأمر عندما أطلق برنامج تعاون مشترك مع الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID). يومها، أي في 2018، أعلنت السفارة على حسابها الرسمي على موقع «تويتر»، التعاون بين الوكالة والمصرف لرفع مستوى الحصول على الخدمات المالية عبر منتج خاص بالمصرف يسمى «وفّر واربح» للوصول إلى زبائن جدد وتعزيز الثقافة المالية لدى طلاب المدارس الرسمية في لبنان.
لا شكّ بأنه ليس أمام لبنان سوى التعامل مع مسألة إدراج «جمّال ترست بنك» على لائحة «أوفاك» على أنها مسألة محسومة النتائج، إلا أن رعب المسؤولين المصرفيين، دفعهم إلى التصريح علناً بالطاعة للأميركيين، كما فعل سلامة باعتماده التصنيف الشرعي وغير الشرعي للحسابات، ورئيس مجلس إدارة جمعية المصارف سليم صفير الذي تحدّث من بعبدا عن تطمينات أميركية بأنه ليس هناك مصارف أخرى مدرجة على جدول العقوبات. هل كان صفير يقصد التطمينات أو الغدر الأميركي؟
على أي حال، إن هذا النوع من تقديم فروض الطاعة للأميركيين كان صداه مؤلماً أمام الأذية التي لحقت بعشرات العائلات من موظفي المصرف الذين كانوا يناقشون مصيرهم المجهول، وأمام مئات أصحاب الحسابات القلقين من تصنيفهم بين شرعي وغير شرعي وفق معايير أميركية غير واضحة. لكن الجميع تخطّى هذه المسألة في اتجاه تعزيز استقرار السوق المصرفية بكل الطرق المتاحة، ولو كان بينها إعلان الخضوع للأميركيين مرة جديدة. وبات الكل يفتّش عن الحلّ الذي يمكن أن يرضي واشنطن: أي مصرف تنطبق عليه الشروط الأميركية لـ«يفوز» بصفقة الاستحواذ على مطلوبات وموجودات «جمّال ترست بنك» من دون الحسابات التي يرى الأميركيون أنها «مشكوك فيها»؟ هل يلجأ مصرف لبنان إلى معالجات مختلفة كأن يضع يده على المصرف مباشرة ويتعهد بمعالجة الحسابات المصنّفة أميركياً بأنها غير شرعية؟
بعض المصرفيين قالوا أمس إن مصرف لبنان سمح لـ«جمّال ترست بنك» بإصدار شيكات لحساب الزبائن مسحوبة على مصرف لبنان، تأكيداً لما صرّح به سلامة عن ضمان الودائع، كما سرت شائعات عن انتقال حسابات المصرف إلى فرنسبنك، وهو أمر نفاه الأخير في بيان رسمي صادر عن إدارته.



«جمّال ترست بنك»... مصرف عائلي يذوي
في نهاية عام 2018، بلغت قيمة ودائع «جمّال ترست بنك» وفق التصنيف الذي تعدّه «الاقتصاد والأعمال»، نحو 1636 مليار ليرة، ولديه ودائع بقيمة 1368 مليار ليرة، وتسليفاته بقيمة 806 مليارات ليرة، وأمواله الخاصة الأساسية تبلغ 130 مليار ليرة، وأرباحه 7 مليارات ليرة. وبحسب بنك داتا، فإن «جمّال ترست بنك» يملك 25 فرعاً مصرفياً في 2017، ولديه أكثر من 400 موظف، وهو يتعامل مع «ستاندرد تشارترد» كمصرف مراسلة في نيويورك وفي طوكيو، ولديه تعاملات مع مصارف مراسلة في كولومبو وفي لندن وفي المنامة وفي ميلان وروما، والرياض وباريس. كذلك لديه ثلاثة مكاتب تمثيلية في لندن وساحل العاج ونيجيريا.
وكان رئيس مجلس إدارة «جمّال ترست بنك»، أنور الجمال، قد تمكّن في السنوات الماضية من شراء حصص غالبية الورثة في المصرف ليصبح مالكاً لأكثر من 95% من أسهمه. كذلك باع الجمّال عقارات بقيمة تفوق 40 مليون دولار، من ضمنها عقار اشتراه من مصرف لبنان من ضمن تركة «بنك المدينة»، ثم اشترى من المطور العقاري المتعثّر سمير حداد المبنى الذي يشغله المصرف اليوم بوصفه مقرّه العام في منطقة العدلية بقيمة 20 مليون دولار أميركي.