اذا كانت الحكومة اللبنانية تقارب مشروع موازنة العام 2019 كإنجاز لجهة العجز المخفّض في الناتج المحلي قياساً مع موازنة العام 2018، الّا انّ هذا الانجاز، بإجماع وكالات التصنيف، ليس مُقنِعاً، بل يتطلب مبادرة الحكومة الى إجراء اصلاحات مالية وهيكلية اضافية لخفض عجز الموازنة، مع التنبيه الى انّ نسبة العجز المقدّر في مشروع موازنة 2019 بـ 59 ,7 في المئة قد لا تكون كافية لاستعادة الثقة بلبنان المثقل بالديون.

على انّ اللافت للانتباه في هذا السياق هو المقاربة الانتقادية التي قدّمها وزير المال علي حسن خليل وشَكّك فيها بمضامين التقرير بقوله: "إننا نطرح علامات استفهام كبرى على تقارير ومواقف المؤسسات الدولية او الوكالات، لأنها تعتمد على التحليل السياسي المغلوط بدل الوقائع والمشاريع والاجراءات وما ينُص في مجلسي الوزراء والنواب. نحن ننظر بقلق الى هذا الامر، إلا اننا نقول اننا مستمرون في حفظ الوطن واستقراره".

البنك الدولي
واذا كانت التقارير التي صدرت عن وكالات التصنيف غير مشجعة، فإنّ المواقف التي أعلنها وفدَا البنك الدولي وصندوق النقد بَدت اكثر تفهماً، لكنها لم تخل من التحذيرات والاشارات السلبية.

وفي هذا السياق، دعا نائب رئيس مجموعة البنك الدولي لشؤون منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا فريد بلحاج، الذي جال على كل من رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير المالية علي حسن خليل، الحكومة لأن تعمل بجهد أكبر "لإنجاز مشاريع البنك الدولي الموجودة في محفظته، وهذه المشاريع يجب العمل عليها بأكبر قوة ودعم لأنّ لدينا اكثر من مليارين و400 مليون دولار موجودة في محفظة البنك الدولي اليوم، ومنها قرابة المليار دولار ليست في وضع إيجابي خصوصاً انّ المحفظة عندنا كبيرة وهناك طاقات، لاسيما انّ هذا المبلغ هو على ذمة الحكومة اللبنانية والمواطن اللبناني".

كما اشار بلحاج الى انّ "الإصلاحات لا تنتهي وهي امر متواصل، ونحن مع الحكومة اللبنانية ولبنان في المضي قدماً في هذه الإصلاحات، لاسيما بالنسبة لموضوع الكهرباء الذي يُعتبر موضوعاً حيوياً. ويرى مراقبون انّ كلام بلحاج يشير بوضوح الى عدم استكمال ما هو مطلوب كهربائياً لجهة تشكيل الهيئة الناظمة. ومن المعروف انّ الدول والمؤسسات المانحة في مؤتمر "سيدر" تشدّد على انّ تشكيل الهيئات الناظمة في الكهرباء او الطيران المدني او سواه، ممر إلزامي للبدء في تطبيق مشاريع "سيدر".

أزمات تفرّخ أزمات
يتزامن ذلك مع وضع لبناني ملبّد بأزمات تفرِّخ أزمات، فما ان تنطفىء ازمة حتى تشتعل ازمة جديدة اثقل واكثر تعقيداً. فبالأمس دخلت ازمة اساتذة الجامعة اللبنانية مدار التبريد والحلول، فيما ازمة العسكريين المتقاعدين جَمرها كامن تحت رماد الموازنة والاتجاه الذي ستسلكه بنود المشروع المرتبطة بهم. وعلى الخط الموازي، تبرز أزمات اصعب، بدءاً بتقنين الكهرباء الذي لوحظ تزايده في الفترة الأخيرة، مع تبشير وزارة الطاقة المواطنين بتقنين إضافي خلال هذا الصيف بسبب عدم حصولها على السلفة التي طلبتها حول الكهرباء، وايضاً بأزمة النفايات التي عادت تطرق ابواب البلد بروائحها وانبعاثاتها، وتهدد بما هو أسوأ على كل المستويات، وذلك بعدما شارفت مكبّات النفايات في برج حمود والكوستابرافا على الامتلاء، مع تعذّر وجود بدائل لهذه الازمة المستعصية.

في الجانب الآخر، يطرق مشروع الموازنة للعام 2019 باب الهيئة العامة لمجلس النواب، على وعد ان يدخلها خلال فترة لا تتجاوز النصف الاول من الشهر المقبل، حيث تنصرف اللجنة النيابية للمال والموازنة في جلساتها المتبقية الى البَت في المواد والبنود المعلّقة. وبحسب مصادر اللجنة انّ مهمتها قد تكتمل خلال الأسبوع المقبل، يُصار بعدها الى إحالة المشروع على الهيئة العامة، وتضع اللجنة تقريرها الذي سيتضمن مجموعة توصيات تدعو الى الأخذ بها. فيما أشار رئيس المجلس النيابي نبيه بري الى انه سيحدد جلسة عامة لمناقشة الموازنة لثلاثة ايام بجولات نهارية ومسائية، ويأمل ان يتم ذلك خلال الاسبوع الاول من تموز المقبل.

واذا كانت الموازنة قد اعتُبِرت قطوعاً أمكن تجاوزه بعد فترة طويلة في شد الحبال حولها، الّا انّ القطوع الأكبر ما زال مُستحكماً في بعض التفاصيل الأخرى، الّا انّ الخشية في هذا المجال تكمن، كما يقول مسؤول كبير، في "ان يكون الهدف الاساس للحكومة في هذه المرحلة هو تمرير الموازنة، ومن ثم الانصراف الى "عطلة صيفية"، فبحسب معلوماتي انّ العديد من الوزراء يحضّرون للسفر لتمضية اجازات خارج لبنان".

 
 

حالة طوارئ
فإن صَحّ الحديث عن هذه العطلة، فسيشكل ذلك دافعاً اضافياً لتأجيل الاولويات، يضاف الى السبب الأول المتمثّل في بطء العمل الحكومي وضعف الانتاجية وغياب الارادة الجدية لمقاربة هذه الاولويات، خلافاً للوعود التي أطلقتها الحكومة فور تشكيلها. وفي هذا المجال يبرز التأكيد المُتجدّد لرئيس مجلس النواب بضرورة ان تظهر الحكومة في مظهر المبادر الى العمل والانتاج، وأقل الواجب والمسؤولية هنا هو اعلان حالة طوارىء اقتصادية باتت مُلحّة لإنقاذ الوضع الاقتصادي وقد آن الاوان لذلك. إذ لا يكفي ان تنجز الموازنة بعجز مخفّض، وهذا امر مهم جداً، بل يجب ان يقترن ذلك بمبادرة جدية من قبل الحكومة الى العمل والانتاج.

خلاف التعيينات
وإذ أكد بري ضرورة ان تتم مقاربة ملف التعيينات، خصوصاً انه تعمّد ان يخطو اولى الخطوات في هذا المجال، عبر انتخاب اعضاء المجلس الدستوري في مجلس النواب، لعلّ هذه الخطوة تفتح باب التعيينات على مصراعيه، قالت مصادر وزارية لـ"الجمهورية" انّ التعيينات مؤجلة، وإنجازها يتطلّب معجزة، بالنظر الى الخلاف الكبير المُستحكم حولها بين بعض مكوّنات الحكومة.

ولفتت المصادر الى انّ هذا الخلاف متشعّب، مرتبط من جهة بالتناقض الحاد حول التعيينات بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" حول بعض المواقع المسيحية. ومن جهة ثانية، حول تعيين نواب حاكم مصرف لبنان الاربعة الشاغرة مراكزهم منذ نهاية آذار الماضي، فلا خلاف على النائب الأول للحاكم رائد شرف الدين، ولا على نائب الحاكم السني، الّا انّ الخلاف ما يزال قائماً بحدّة على نائب الحاكم الدرزي بين وليد جنبلاط وطلال ارسلان المدعوم من قبل العهد والوزير جبران باسيل، وعلى نائب الحاكم الذي ينتمي الى طائفة الارمن الارثوذكس، فبينما يصرّ حزب الطاشناق على التمسّك بنائب الحاكم الحالي الدكتور هاروت صاموئيليان، نرى أن لباسيل رأياً آخر.

ومن جهة ثالثة يتردد أنّ هناك خلافاً حول الميدل إيست على خطّي رئيس الحكومة ووزير الخارجية، وسط حديث عن مطالبة الوزير باسيل بتعيين مدير عام مسيحي الى جانب رئيس مجلس الادارة المدير العام لشركة طيران الشرق الاوسط محمد الحوت.

المجلس الدستوري
وفي سياق متصل، قالت مصادر نيابية لـ"الجمهورية": لا شيء يبرّر تأخير إكمال المجلس الدستوري بتعيين الحصة الحكومية الخماسية فيه، وذلك بالنظر الى التوافق حوله في مجلس النواب بين الكتل النيابية الكبرى الممثلة في الحكومة، حيث يفترض ان يسحب هذا التوافق نفسه على مجلس الوزراء، وبالتالي تعيين الاعضاء الخمسة في مجلس الوزراء. وهو أمر لا يوجد له اي تبرير او تفسير حول ما يوجِب هذا التأخير.

الى ذلك، وبحسب معلومات بعض الوزراء، ان لا تعيينات لأعضاء المجلس الدستوري او اي تعيينات اخرى في جلسة مجلس الوزراء المقررة الثلاثاء المقبل، بالنظر الى انعقاد هذه الجلسة في السراي الحكومي، فمثل هذا الامر يفترض ان يصدر من بعبدا، وطالما انّ الجلسة لم يحدد موقعها في بعبدا فمعنى ذلك انهم لم يتجاوزوا الخلافات حولها بعد، علماً أنه ليس من المفترض أبداً ان يُصار الى خلاف على اعضاء المجلس الدستوري الخمسة الآخرين، باعتبار انّ التوافق بين الكتل السياسية شمل الاعضاء العشرة، سواء حصة مجلس النواب او حصة مجلس الوزراء.

بعبدا
في السياق نفسه، اعتبرت مصادر وزارية مطّلعة على موقف قصر بعبدا "انّ ما يقال انّ التعيينات تتم عندما يترأس الرئيس عون الجلسات هو كلام مردود، لأنه في الحكومة السابقة أقرّت تعيينات في الجلسات التي انعقدت في السراي، مشيرة الى انه بالتفاهم بين رئيسي الجمهورية والحكومة يمكن التوَصّل الى القرارات اللازمة. كذلك، فإنّ من حق الرئيس عون أن يترأس الجلسات التي تحصل فيها التعيينات لأنه رئيس الجمهورية، ومن يُعيّنون يتولون مهاماً لها علاقة بإدارة شؤون البلاد، والمادة 49 من الدستور واضحة في التأكيد على دور الرئيس كونه رمز وحدة الوطن والحريص على السهر على احترام الدستور، كما انّ المواد الأخرى في الدستور تمنحه الصلاحيات للإشراف على حسن تطبيق القوانين وردّها.

وذكّرت المصادر "انّ رئيس الجمهورية هو صاحب التوقيع الأخير على المراسيم والقوانين ومنها مراسيم التعيينات وغيرها، وانّ ترؤسه جلسة تصدر فيها تعيينات هو أمر طبيعي كما هي حال ترؤسه جلسة لا تعيينات فيها، ومن حقه اذاً أن يترأس اي جلسة لمجلس الوزراء".
وقالت المصادر: "انّ عون لن يكون صندوق بريد ولا "خيال صحرا"، كما يعمل البعض أو يريد".