ليس في التاريخ أشهرُ من قصّة إغواء امرأة العزيز للنبي يوسف، فقد شغفها حبّاً، كما نساء المدينة قلن عنها، ولولا أنْ رأى يوسف برهان ربّه لوقع في الغواية، ولو لم تشقّ قميصه من دُبرٍ، لكان قد ثبت عليه الجرم.
 
إذن، لقد كانت نجاة يوسف من امرأة العزيز عبر شاهدٍ من أهلها، كما ورد في القرآن: "وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ".
 
لقد تسابق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب، بعدما أغلقت أبواب البيت عليه، هو يريد النجاة، وهي تريد أن تمنعه من ذلك بأن أخذت بمؤخر قميصه كي تجذبه إليها ما أدّى إلى شقّ القميص! لكن علينا التدقيق في هذا الوصف الحركي للقصّة، والتفكّر في جملة: "وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ" وقد فسّر الفقهاء هذا القول على عدّة وجه.
 
بداية تقول العرب في معنى: "الهمّ بالشيء"، حديث المرء نفسِه بمواقعتِه، ما لم يُواقِع، أيّ مجرد رغبة نفسية وتلميح، لم ينتقل إلى الفعل.
 
قال أبو جعفر في ذلك الأمر: "جعلتْ تذكر له محاسنَ نفسه، وتشوّقه إلى نفسها".
 
وقال ابن إسحاق: "أكبّت عليه - يعني المرأة - تُطمعه مرّة وتخيفه أخرى، وتدعوه إلى لذّة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها وملكها، وهو شاب مستقبل يجد من شَبق الرجال ما يجد الرجل، حتى رَقَّ لها ممّا يرى من كَلَفها به، ولم يتخوَّف منها حتى همَّ بها وهمَّت".
 
وذهب فقهاء آخرين إلى أكثر من ذلك، فقال ابن عباس: "جلس منها مجلس الخاتن، وحلّ الهِمْيَان" والهِمْيَان يعني: شِدَاد السراويل، أي أنّ يوسف قد فكّ زنار سراويله حتّى أنّ بعض الشرّاح كمجاهد، فقال: "حلّ سراويله، حتى وقع على أَلْيَتيه".
 
وزاد البعض على التفاسير السابقة بأن همّة يوسف ذهبت لضرب امرأة العزيز منعاً لها من الاستمرار في غوايته.
 
امتنع يوسف عن الوقوع بالسوء والفاحشة لأنّه رأى "بُرْهَانَ رَبِّهِ"، وذهب المفسّرون في أنّ برهان الرب تجلّى بصورة أبيه يعقوب عاضاً على أصبعه، فاستحى يوسف، وقال آخرون إنّ الملاك جبرائيل ضرب يوسف على صدره، فخرجت منه شهوته.
يرفض يوسف غواية امرأة العزيز، فيتسابقان إلى الباب، هو يريد هروباً، وهي تريد منعه من ذلك، فيشخص لهما عزيز مصر، ويتجادلان أمامه، هو يتهمها بالغواية، وهي تتهمه بذلك أيضاً، إلى أن شهد شاهد بقصّة القميص المقدود من دُبر أو قُبل وهنا يقول عزيز مصر: "يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ"!
 
حقٌّ لنا أن نلحظ الردّ الغريب لعزيز مصر، فهو لم يغضب كعادة الرجال في الدفاع عن شرفهم، على الرغم من أنّ واقعة التحرّش قد ثبتت على امرأته، فما هي القصّة!؟
 
رأينا سابقاً تعدّد التفسيرات بخصوص هذه الواقعة ولنا أن نختار معنى "الهمّ بالشيء" كأحسن التفاسير، لكن ماذا نفعل بالقميص المشقوق من دبر؟ وبماذا نفسّر موقف عزيز مصر الهادئ؟

 

قد يفتح لنا تقليد قديم بين العشاق باباً لنفهم ما حدث بين يوسف وامرأة العزيز.

جاء خبر شقّ الثياب في "صبح الأعشى"، فقد زعم العرب أنّ المتحابين، إذا شقّ كلّ واحدٍ منهما ثوب صاحبه دامت المحبة بينهما ولم تفسد. وقال أبو عبيدة: كان من شأن العرب إذا تجالسوا مع فتيات للتغزّل أن يتعابثوا بشقّ الثياب لشدّة المعالجة عن إبداء المحاسن. وقيل أيضاً: إنّما يفعلون ذلك ليذكّر كلّ واحد منهما صاحبه به.

قال العينيّ: كانت عادة العرب في الجاهليّة أن يلبس كلّ واحدٍ من الزوجين بُرد الآخر، ثمّ يتداولان على تخريقه حتّى لا يبقى فيه لبس، طلباً لتأكيد المودّة. وقال الجوهريّ: يزعم النساء إذا شقّ أحد الزوجين عند البضاع شيئاً من ثوب صاحبه دام الودّ بينهما، وإلّا تهاجرا.

إذن نحن أمام تقليدٍ يقوم به العشّاق لتأكيد الحبّ ودوامه ولقد قال متغزّلاً ومصرّحاً بالتقليد الذي ذكرناه، الشاعر سحيم عبد بن الحسحاس:

فكم قد شققنا من رداء محبّر/ ومن برقع عن طفلة غير عانس

إذا شقّ بُرد شُق بالبرد برقع/ دواليك حتّى كنّا غير لابس.

وقال آخر:

شققت ردائي يوم برقة عالج/ وأمكنني من شقّ برقعك السحقا

فما بال هذا الودّ يفسد بيننا/ ويمحق حبل الوصل ما بيننا محقا.

ما تقدّم ذكره يؤكّد لنا عادةً متأصّلةً لدى العشّاق العرب في الجاهلية، لكنّ حادثة يوسف وامرأة العزيز كما تذكر التفاسير جرت في أرض مصر ولربما تختلف العادات، فنذهب في اتجاهنا البحثي اتجاهاً منكراً إلّا إذا علمنا أن الرسل تخاطب أقوامها بلغتهم ومعانيهم، ولا يمكن أن يومئ النصّ المقدّس إلى تقليد أو عادة ما، فيتركها بلا تفسير إلّا إذا كانت واضحة لمن يخاطبهم النصّ المقدس، وعليه لنا أن نستنتج أن واقعة خرق الثوب التي تصوّرناها نتيجة لهرب يوسف من امرأة العزيز كما أوضحنا سابقاً بموجب التفاسير التراثيّة غير صحيحة!

وهنا لنا أن نتصوّر الواقعة بموجب الأدلّة التي أوردناها عن تقليد تمزيق الثياب وخرقها.

لقد طلبت امرأة العزيز من يوسف ممارسة تقليد شقّ الثياب كي يتأكّد له حبّها وتتثبت من ودّه، وخاصة أنّه قد شغفها حبّاً. يرفض يوسف، فتبادر امرأة العزيز إلى شقّ ثوبه من دبر وذلك لن يكون إلّا بعد أن أعرض عنها وسبقها إلى باب البيت، وعندما لحقت به أمسكتْ مؤخر قميصه وشقّته.

نحن نعلم أن معجزات النبي موسى كانت في مواجهة سحرة فرعون، وهذا يعني أنّ زمن يوسف كان مليئاً بالتقاليد السحريّة، وما الكيد الذي وصفت به امرأة العزيز من قبل عزيز مصر إلّا لممارستها هذا الكيد/ السحر، فلا يعقل أن يكون ردّه بهذه السلاسة على امرأته التي تخونه، فهو يرى ممارسة الكيد/ السحر ذنباً يجب التوبة عنه، وبالوقت نفسه يطلب من يوسف أن يعرض على ذلك، ولربما ذهب بفكره على أن امرأته قامت بشقّ قميص يوسف كونه ربيبها، وهي تريد تثبيت محبته لها كأمّ! لأنّ ما ذهبنا إليه هو التفسير المعقول لردّة فعل عزيز مصر، وخاصّة أنّ دخول يوسف السجن جاء في حادثةٍ أخرى مرتبطةٍ بالنساء اللواتي اتهمن امرأة العزيز بأنّ يوسف قد شغفها حبّاً، وهذه الواقعة جرت بعد حادثة شقّ القميص.

لقد رأى يوسف برهان ربّه في مقابل الطقوس السحريّة التي كانت ستقيمها امرأة العزيز! ألم يتهم جاهليو قريش الرسول محمد بالسحر أيضاً، بعدما اختبروا وقع وقوّة كلمات القرآن! ألم يؤمن سحرة فرعون بموسى بعد أن تلقفت عصاه أفاعيهم المصنوعة من حبال، فقد قال يوسف بعد أن راودته عن نفسه: "قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" ومن ثمّ بعد كاد أن يركن إلى سحرها، أنقذه الله: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ".

إذن نحن أمام طقسٍ سحري عشقي يقوم المحبّون به لتأكيد حبّهم وديمومته، وهنا لا نستطيع أن نغفل أن يوسف كاد يركن لامرأة العزيز ويطاوعها، وهذا يعني أنّ هناك ميلاً عاطفيّاً نحوها وإلّا لماذا ختم التراث قصّتهما بالزواج؟

 

 

باسم سليمان