منظومة بوتفليقة تصر على تجاهل تغير مزاج شعب لم يعد يتأثر بكوابيس العشرية السوداء.
 

لم يتحصّن النظام في الجزائر بأي خبرة أنتجتها تجارب الحراكات الشعبية التي شهدتها بلدان المنطقة منذ عام 2011. ولا يبدو أن هذا النظام متّعظ من تجارب الجزائر نفسها، على الأقل منذ اندلاع الاحتجاجات الشهيرة عام 1988. وقد لا نفاجأ من عدم قدرة الغرف المغلقة في أعلى الهرم القيادي في البلاد على اجتراح حلول خلاّقة مفاجئة تعيد الهدوء إلى شارع قلّما تحرك منذ “العشرية السوداء” في تسعينات القرن الماضي.

خرج القذافي يسأل “من أنتم؟” وتحدث عن “الجرذان”، وخرج الأسد يتّهم “المندسين” قبل أن يصدر نظامه نسخا معدلة عن هوية أعدائه الإرهابيين التكفيريين الذين ساهم في تعويمهم وإخراجهم إلى مسرح الحدث. لم تر السلطة في الجزائر في حراك الجزائريين إلا ظلال أخطار تحذّر من حرب أهلية على منوال النسخة السورية، وفق تصريحات رئيس الوزراء أحمد أويحيى، أو استعادة لكوابيس السنوات السوداء التي شهدتها الجزائر نفسها قبل عقود.

يحكم الجزائر منذ الاستقلال عام 1962 نفس النظام الذي تتغيّر واجهاته ولا تتبدّل مناهجه في الحكم وفلسفاته في السلطة. تدور ديناميات السلطة حول حزب جبهة التحرير الوطني في السياسة وحول مؤسسة الجيش والأجهزة الأمنية في إنتاج وجوه الحكم وأصوله. لا شيء تغير سوى أن النظام يعبّر عن انسداد هذه الأيام تجعله عاجزا عن تقديم واجهة رسمية له غير الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة. فإضافة إلى أن الأخير تبوّأ سدة الرئاسة لأربع عهدات منذ عام 1999 ما يجعل التمديد له لـ”عهدة خامسة” أمرا استفزازيا، فإنه في ما يشكوه من مرض يُقعده ويغيّبه عن المسرح العام، يفترض أن يدفع “أولي الأمر” في هذا النظام إلى الهرع نحو شخصية بديلة رأفة ببوتفليقة المريض ورأفة بالجزائر ونظامها السياسي.

الظاهر أن شللا بنيويا أصاب التركيبة الحاكمة داخل الدائرة الضيقة المحيطة بالرجل المريض. والظاهر أيضا أن بوتفليقة يمثل كلمة سرّ معقدة لنظام حكم سريع التفكّك بغيابه وغياب رمزية حضوره. وقد يستغرب المراقب عدم قدرة العسكر والأمن وساسة الحكم على التوافق على بديل يمثل مصالح كافة تيارات النظام السياسي، وقد يتساءل عمّا هم فاعلون في حال تدخلت الإرادة الربانية وغيّبت الرجل على نحو لا يمكن معه إلا الاعتراف بأن المنصب شاغر عمليا، حتى لو أنه كان شاغرا بالفعل منذ الجلطة الدماغية التي أصابت بوتفليقة عام 2013. يشتري نظام الجزائر الوقت. لا يريد أن يعترف بأن الشارع ينتفض وأن المظاهرات التي لم يرها التلفزيون الحكومي هي حقيقة تتطلب أجوبة سياسية عاجلة. بدا أن الاحتجاجات تركز على أن الأمر لا يتعلق بـ”إسقاط النظام” على منوال ما رفعه متظاهرو “الربيع العربي”. تحرك الناس لمطلب بسيط: “لا للعهدة الخامسة” لبوتفليقة. بمعنى آخر لم يخطر على بال المنتفضين المطالبة بأن يرفضوا أي عهدة جديدة للحزب الذي يحكم الجزائر منذ ستينات القرن الماضي. مطلب العامة بسيط ومنطقي يكاد يقول “احكمونا بغير هذا الرجل”.

يخرج الجزائريون مجتمعين في حراك لا يشبه حراك سوريا الذي يهدّد به أحمد أويحيى ومنابر حكومته. فلا المجتمع الجزائري شبيه بالتعدد القومي والمذهبي للمجتمع السوري ولا حتى النظام الجزائري المعقّد التركيب والموّزع وفق خرائط وجاهية يشبه نظام الأسد العائلي المستند على أقلية مذهبية. ثم إن الجزائريين الذين عاشوا “العشرية السوداء” الدموية يدركون قبل غيرهم الكوارث التي تنتج عن أي نزوع نحو العنف، وهم يقدمون كل يوم منذ اندلاع انتفاضتهم دروسا في العمل الحضاري السلمي والحرص على وحدة الجزائر والجزائريين. وبالتالي فإن التهويل بـ”خراب البصرة” وفق حجج أويحيى يعبّر عن إفلاس مقلق لسلطة لا تجد ردا ذكيا مقنعا وتستسهل اللجوء إلى خيارات التخويف الخبيثة.

لم يستطع نظام الجزائر منذ الاستقلال تخليص البلاد من اقتصاد النفط والغاز. فقدت البلاد تجربتها الصناعية التي اعتمدها الرئيس الراحل هواري بومدين. دخلت البلاد منذ عام 1988 في حالة ارتجال هدفها ضمان السلم الأهلي. استند النظام على آلية الأمن التي تتحمل قسطا من مسؤولية وقوع البلاد في حمام دم خلال سنوات مواجهة التيارات الإسلامية والجهادية. واعتمد الحكم على آلية شراء السلم الأهلي أيضا من خلال وفرة مالية كانت تؤمنها العهود الذهبية لأسعار النفط.

يعتمد اقتصاد الجزائر على سوق الغاز والنفط (35 بالمئة من الناتج القومي العام، 75 بالمئة من مداخيل الميزانية، 95 بالمئة من مداخيل التصدير). وحين تتراجع أسعار هذا القطاع ينكشف أمر السلم المجتمعي المزيّف.

لم يعد سوق النفط مواتيا لسوق اجتماعي جزائري يطالب بالبحبوحة وفرص العمل، ولم يعد جيل هذه المرحلة الذي يراكم شهادات جامعية داخل جفاف في سوق العمل، متأثرا بحكاية “التحرير”، ثم حكاية “العشرية السوداء”، وحتى حكايات البراكين في ليبيا القريبة وتلك في سوريا البعيدة.

يدور بحث المراقبين حول شخصيات الظل التي تقرر شأن البلاد حول بوتفليقة. والأسئلة كثيرة حول الدور المثير للجدل الذي يلعبه شقيق الرئيس، السعيد بوتفليقة، داخل دائرة القرار الضيقة حول الرئيس. بعض المعلومات تتحدث عن نفوذ يمتلكه الرجل يقرر فيه هوّية الوزراء وطبيعة السياسات التي ينفذها رئيس الحكومة.

ويسلّط المجهر أيضا على الفريق أحمد قايد صالح رئيس أركان الجيش الجزائري ونائب وزير الدفاع (رئيس الجمهورية هو وزير الدفاع) باعتباره واحدا من أخطر الشخصيات التي عملت إلى جانب بوتفليقة. ويعود للرجل ودهائه عملية إبعاد كبار من قادة الجيش والأمن في البلاد لصالح سلطة الرئيس وحده، فيما يعتبر المراقبون أنه كان أكثر المستفيدين من إقالة الجنرال محمد مدين الملقب بـ”توفيق” الذي قاد جهاز المخابرات في الجزائر لمدة 25 عاما.

ولا يمكن تناول دائرة الحكم دون التنبّه إلى الدور الذي يلعبه اللواء عثمان طرطاق الذي اختاره بوتفليقة بديلا عن الجنرال “توفيق” على رأس جهاز المخابرات. بدا أن الرجل يمثل ركنا أساسيا من أركان سلطة الظل التي اعتمدها بوتفليقة في السنوات الأخيرة. يمسك الرجل بملف الأمن وامتداداته خارج البلاد ويجعل دوره وحضوره مفصليا داخل خرائط الأمن في العالم، وما يتطلبه ذلك لاستقرار أمن الحكم في الجزائر.

بدا أن دوائر العسكر والأمن المتحالفة مع حفنة من رجال الأعمال الكبار عاجزة عن قراءة مشهد الشارع في الجزائر. بدا أيضا أن معطيات العسكر والأمن المتحالفة مع سلطة المال لم تستشرف انتفاضة على النحو الذي تشهده البلاد هذه الأيام. وبدا أيضا وأيضا أن شبكة المصالح التي تؤسس منظومة بوتفليقة لم تلحظ عامل الشعب ومزاجه، أو اعتبرته تفصيلا هامشيا، وهي وفق ذلك غير حاضرة للتأقلم مع هذا المستجد، ومضطرة لأن تتمسّك ببوتفليقة رئيسا، وأن يقدم ملف ترشيحه من ينوب عنه طالما أن في الجزائر حكما ينوب عن رئيسه.

تحتاج تلك الدائرة إلى الوقت في محاولة للتمديد لحكم ران البلاد منذ الاستقلال. يتلو ذاك النظام وعدا لبوتفليقة للرحيل قريبا، ربما حين تهتدي تلك الدائرة إلى الرجل البديل. هذا النظام أصمّ لا يستطيع أن يسمع صوت الجزائر هذه الأيام. وفي الجزائر من يرى أن البلاد تخلّصت من استعمار فرنسا قبل 57 عاما وتحتاج هذه الأيام إلى الاستقلال عمّن حررها من ذلك الاستعمار.