ليست المرّة الأولى التي يقف فيها الرئيس سعد الحريري على منبر القاعة العامة لمجلس النواب، مقدّماً بيانه الوزاري، ومطالباً بحكومة أقوال لا أفعال. حتّى الآن، كل الحكومات المتعاقبة، تندرج في خانة الأقوال والشعارات. وإذا ما قورنت البيانات الوزارية بالبيان الحالي، فلن يجد اللبنانيون أي فارق فيما بينها. نبرة الحريري الصادقة أو الطامحة، وحدها التي تعطي انطباعاً إيجابياً. لكن بعيداً عن العاطفة، لا يمكن انتظار المزيد.

دخل الحريري إلى الجلسة ضاحكاً، محاطاً بنواب كتلته. جلس على مقاعد النواب، واختلى ببعضهم وقوفاً. إلى أن طرق الرئيس نبيه برّي مطرقته، فتوجّه كل إلى مقعده. استخدم برّي مطرقته أكثر من مرّة. وأعلن أن الحكومة ستكون خاضعة للمراقبة، متعهداً بأن تعقد جلسة مساءلة لها كل شهر.

أين وزير المال؟

كان النواب في واد، والوزراء في جنّات القمم. لربما المحاسبة الحقيقية، المفترضة لدى بعض النواب الممثلة كتلهم في الحكومة، تنطلق من التفكير في كيفية الحلول مكان زملائهم في الكتل، داخل تلك الحكومة. بعض النواب غلبه النعاس، وآخرون أصابهم الملل، فغادروا القاعة العامة. الوزير محمد شقير يلهو بهاتفه، والنائب نواف الموسوي في حديث مطوّل مع وزيرة الداخلية ريا الحسن، ووزيرة الطاقة ندى البستاني. البيان الوزاري الذي يخصص جانباً أساسياً وواسعاً منه للشق المالي والاقتصادي والإصلاحي، لم يستدع ربما حضور وزير المال علي حسن خليل، لفترات طويلة خلال الجلسة، ما دفع النواب إلى السؤال عنه.

غاب الحريري حوالى الساعة عن الجلسة، بينما باسيل الذي كان يجلس بجانبه أغلب الوقت، كان يفعّل اجتماعات تكتّله، ويوزع مهاماً غامضة. النائب عدنان طرابلسي كان جالساً إلى جانب نواب المستقبل، وتحديداً على المقعد الذي كان يجلس عليه الرئيس فؤاد السنيورة، أما الوزيرة مي شدياق، فكانت مستغرقة بدردشة كاملة مع الوزيرين محمد فنيش وصالح الغريب.

الحداد على من؟

طلب النائب نديم الجميل الكلام بالنظام، سائلاً عما إذا سيتخذ رئيس المجلس إجراءً بخصوص تشييع النائب الراحل روبير غانم. سؤال الجميل لم يلق أي جواب من برّي، الذي تجاهل ما سمع وردّد عبارة "الزميل تمام سلام"، في إشارة منه إلى إعطاء الكلام لرئيس الحكومة السابق. وعندما تمنى النائب ميشال معوض على بري الوقوف دقيقة صمت عن نفس جورج زريق، قائلاً: "أتمنى منك يا دولة الرئيس أن تدعو المجلس الكريم لدقيقة صمت، حداداً على جورج زريق، لنتأمل كم نحن مقصرون بواجباتنا تجاه اللبنانيين"، فردّ عليه بري: "يجب الوقوف دقيقة صمت عن الدولة اللبنانية".

الواضح والشجاع 

كلمة سلام مثّلت صرخة مدوّية حول تجاوزات الدستور، مغلّفة بقراءة داخلية، عبّر فيها عن تعمّد البعض في قضم الصلاحيات وضرب الفصل بين السلطات، وصولاً إلى تسجيله الأسى على الانحدار السياسي. ردّ سلام ذلك إلى خطيئتين، خطيئة ممارسة قوى سياسية، تريد إعادة الساعة الوطنية إلى الوراء، عبر اختراع مفاهيم وقواعد تخلّ بالنظام السياسي في البلاد، والخطيئة الثانية والتي وصفها بالأصلية، فهي الخلل الذي دخل إلى الحياة السياسية منذ اتفاق الدوحة، وأنجز سلسلة من البدع المرفوضة، وأولها هي وجوب أن تكون جميع الحكومات حكومة ائتلافية، يشارك فيها جميع الأفرقاء السياسيين، تحت عنوان الوحدة الوطنية، وبذلك ضرب التعريف الأول للديموقراطية. وبذلك يغيب مفهوم المحاسبة. ومن بين البدع أيضاً مسألة الثلث المعطّل التي دخلت معجم السياسة اللبنانية.

لدى إلقاء سلام لكلمته، انسحب بعض النواب من الجلسة، والبعض الآخر دخل في حوارات جانبية، بينما آخرون من تكتل لبنان القوي حاولوا التشويش على كلام سلام. عبّر سلام عن رفضه للهرطقة في العمل السياسي من خارج النص الدستوري، كتحديد معايير للرئيس المكلف وإجباره في اعتمادها، ومنها نظرية سحب التكليف، ومنها ما سمّي حصة رئيس الجمهورية. وهذا المفهوم اعتمد استثنائياً بعد اتفاق الدوحة، وكان رئيس الجمهورية الحالي معارضاً لذلك. تحوّلت الحكومات إلى محميات وتجمّعات لقوى طائفية، حسب سلام، الذي أيضاً سجّل الرفض لاعتماد مبدأ كل أربعة نواب يحق لهم بوزير. وإرساء قواعد جديدة في عدم تسليم أسماء الوزراء للرئيس المكلف قبل تحقيق شروط بعض الأفرقاء. كل هذه الممارسات تأتي في سياق ضرب الحياة السياسية والدستورية، وتضرب مفهوم تداول السلطة، لتصبح عملية تشكيل الحكومة أو الانتخابات الرئاسية أشبه بمعركة حياة أو موت. 

انتقد سلام إصباغ القوة في بعض القوى والأشخاص، بينما البلد ينهشه الضعف. معتبراً أن ثمة قوى تقيم في ماض لا يمضي، تنظر إلى الوطن بمنظار مصالحها الخاصة، وتعبث بخفّة شديدة بالقواعد الدستورية، وتجازف بلا وجل بركائز البنيان الوطني. إن البلاد لا تحتمل هذا القدر من الاستئثار والاستكبار.

لدى إثناء تمام سلام على موقف بعض القوى لمبدأ الفصل بين النيابة والوزارة، آملاً من القوى الأخرى أن تحذو حذوها، تدخّل برّي ممازحاً، وسائلاً إذا كان ذلك ينطبق أيضاً على رئيس الحكومة، فأجاب سلام بأن ذلك لا يشمل رئيس الحكومة في كل دول العالم. 

كلمة سلام حظيت على ثناء برّي، إذ ألقى عليه السلام كمن يلقي التحّية شاكراً، فتوجه سلام إلى كرسي رئاسة المجلس، مصافحاً برّي ومشيراً إلى ساعته بأنه التزم بالوقت المعطى له، بدا برّي وكأنه غير آبه بالوقت، وكأنه يقول له خذ ما تريد، لأنك تتحدث عن هواجسنا وتحفظاتنا.

نواب حزب الله

بعد كلمة سلام، جاء دور النائب حسن فضل الله، الذي توجه إلى الحريري ضاحكاً، غامزاً إياه باستسماحه لأن كلمته ستكون قاسية. وقد تناول فضل الله العديد من ملفات الفساد، مشدداً على وجوب "تعزيز أفق التعاون مع إيران".

ومن تناول حزب الله، كان النائب علي عمار له بالمرصاد، كالنائب ميشال معوض، فردّ عليه عمار قائلاً:" نحن أمام حكومة وفاق وطني، وكلنا ممثلون فيها. لذا أتمنى ألا يكون هناك مكان للسجال مع أحد. وحزب الله مكوّن من مكوّنات الشعب، وجزء من هذه الدولة، شاء من شاء وأبى من أبى، ومن يساجلنا يصغر ومن نساجله يكبر".

يمكن اختصار الجلسة سياسياً، بكلمة الرئيس تمام سلام، والذي وضع الإصبع على الجرح. أما في سياقاتها الأخرى، فلا يمكن إخراجها من تقاليد المزايدات وإغداق النظريات، التي توالى النواب على إطلاقها أمام عدسات وسائل الإعلام، والتي لو كانت الجلسة مغلقة، لما تخطّى عدد طالبي الكلام، أصابع اليد الواحدة.

"سيد" الخناقات

في الجلسة المسائية، كسر النائب جميل السيد رتابة الجلسة وملل النواب، من خلال حدة موقفه وإعلانه حجب الثقة عن الحكومة، وصولاً إلى السجال الحاد مع وزير المال علي حسن خليل، الذي اضطر إثر المشادة الكلامية مع السيد إلى مغادرة الجلسة.

حين كان السيد يلقي كلمته، كان الحريري قد خرج من القاعة، فانتقد السيد غياب الحريري، وقال: "كنت أتمنى من رئيس الحكومة أن يكون جالساً، وأن يسمع، لأنه يطلب الثقة لحكومته". ووصف السيّد الرئيس الحريري بكلمته بالـ"الرئيس المغيّب".  وبعدها عاد رئيس الحكومة سعد الحريري إلى قاعة مجلس النواب. وقاطع الحريري السيّد، قائلا: "دولة الرئيس بدّي قول ظهر الرئيس المغيّب".

وقال السيّد في مداخلته إنّ وزارة المالية استدانت مبلغ 600 مليار من صندوق الضمان الاجتماعي، الذي يحوي 11 ألف مليار لدفع الرواتب. وسرعان ما ردّ خليل مؤكّدًا أنّ كلام السيد غير صحيح وخطير.

وردّ السيّد قائلاً: "أبلغتنا أنّ احتياط الموازنة فارغ وكان في داخله 600 مليار"، فعاد وزير المال وردّ: "هيدا الكلام مش مظبوط". وتوجّه السيّد إلى خليل بالقول: "دفاع القمح وممنونك، الفلاحين أصدق من الدولة".