يتعامل البعض مع رحلات باباوات الفاتيكان بكونها زيارات دينية معزولة عن المشهد العام، وهذا خطأ جسيم لأنّ هذه الزيارات هي في صميم هذا المشهد وجوهره.
 

مناسبة هذا الكلام زيارة البابا فرنسيس الى دولة الإمارات العربية المتحدة، وهي أول زيارة يقوم بها البابا الى شبه الجزيرة العربية، وكان سبقه البطريرك الماروني بشارة الراعي إلى السعودية في تشرين الثاني 2017، وزيارة البابا يوحنا بولس الثاني للبنان في أيار 1997 في زمن الإحباط المسيحي وبهدف تبديده الذي تحقق بعد سنوات، وهذا البابا بالذات كان قد ساهم في إسقاط جدار برلين وانهيار الشيوعية في القارة العجوز، وعبارته الشهيرة لدى زيارته الى موطنه بولندا «سيأتي الروح القدس وينزل على هذه الأرض ليغيّرها»، وقد غَيّرها، ما زالت تتردد إلى الآن، في دليل الى قوة التغيير الذي تجسِّده الكنيسة من خلال الثقافة والكلمة.

والبابا يوحنا بولس الثاني نفسه القائل «أنا ابن أمّة... حافظت على سيادتها الوطنية على رغم من كلّ ما تعرّضت له من الخارج من تقسيم واحتلال، معتمدة لا على طاقات القوة الماديّة، بل على ثقافتها فقط. وقد تبيّن انّ هذه الثقافة أكبر من كل قوة سواها».

فالتغيير لا يأتي من فوق، بل من تحت، أي من الشعب، من المواطن الفرد الذي يريد العيش في أمان وسلام واطمئنان، فتأتي كلمات الباباوات ودفاعهم عن حرية الإنسان وحقوقه ومعتقداته والحوار ونَبذ العنف وقبول الآخر ونشر المحبة والسلام لتغذّي الأمل في النفوس التوّاقة إلى التغيير.

ومن هذا المنطلق ترتدي هذه الزيارات أهمية استثنائية، ويخطئ كل من يضعها في إطار مَحض ديني او هامشي، لأنّ محور اهتمام الكنيسة هو الانسان في حرياته وكرامته وعيشه الكريم.

كذلك من أهداف الكنيسة الأساسية نشر السلام، ولا قيمة أساساً لأيّ عمل سياسي إذا لم يرتكز على هذه المفاهيم الإنسانية والأخلاقية والقيمية، مع فارق انّ الكنيسة لا تبحث عن سلطة، بل تدفع الناس الى اختيار حكام وسلطات تجسّد تطلعاتها في أنظمة حديثة وديموقراطية.

والدور الذي أدّته الكنيسة تاريخياً كان مهماً جداً، وتحديداً من النواحي الثقافية والتعليمية والتحررية، ولا يجب التقليل أيضاً من الجانب الإيماني الذي يزوّد الإنسان الصبر ويعطيه القدرة على التحمّل ومواجهة الصعاب وتخطّي الألم والتحلّي بالأمل والرجاء، وبالتالي الإيمان هو طاقة إيجابية ويجب ان يبقى كذلك، وتحويله طاقة سلبية هو استثناء.

فالأنظمة الديموقراطية في العالم نشأت على مفاهيم الحرية والعدالة والمحاسبة والمساءلة وتداول السلطة، وترتكز في كل قوانينها الى معايير أخلاقية مهمتها حماية الفرد وأن توفّر له كل مستلزمات الراحة والطمأنينة، وقد نجحت هذه المجتمعات في تحقيق التطور والحداثة، وتكفي المقارنة بين الأنظمة الاستبدادية والأنظمة الديموقراطية للدلالة الى انّ المجتمعات الحرة قادرة على الإبداع، فيما التطور التكنولوجي السريع والهائل فَرض إيقاعه على كل البشرية، ولن يقبل أي مواطن في العالم بعد عقد او عقدين من الزمن أن يعيش في دولة لا توفر له مستلزماته الحياتية على غرار أيّ مواطن آخر في العالم.

ومواجهة الإرهاب مثلاً لا تستقيم فقط عن طريق التدابير الأمنية الاستباقية، إنما من خلال نَشر الوعي وتغيير المناهج التعليمية وتعميم ثقافة الحوار والتلاقي ونبذ العنف، وطبعاً هناك تكامل موضوعي بين التشدد الأمني والقوانين الصارمة، وبين مكافحة الفقر والدعوة إلى السلام والمحبة.

وانطلاقاً من كل ما تقدّم، تأتي زيارة البابا لدولة الإمارات التي تحولت «سويسرا الشرق» كما كان يقال عن لبنان قديماً، وفي ظل إصلاحات سعودية غير مسبوقة يقودها الأمير محمد بن سلمان الذي ينقل المملكة إلى عصر جديد بدأت معالمه بالظهور، وكلّ ذلك على وَقع حوار إنساني مسيحي-إسلامي عنوانه الإنسان في هذا الشرق، وحقّه في العيش في حرية ضمن أنظمة تحترم التنوع والتعدد.

وهناك حرص واضح لدى الحكام العرب والمسلمين على أهمية الوجود المسيحي في هذا الشرق، وضرورة حمايته والحفاظ عليه، ولكن المدخل إلى كل ذلك العيش في مجتمعات آمنة وحرة كالنموذج الذي تقدمه الإمارات اليوم، ويسجّل للبطريرك الراعي والقيادة السعودية انهما افتتحا مساراً حوارياً عميقاً بين كنيسة مارونية تعمل ضمن 4 أولويات: سيادة لبنان واستقلاله، العيش المشترك على قاعدة الشراكة والمساواة والحرية، تفاعل المسيحيين مع محيطهم، والحفاظ على ما تبقى من مسيحية مشرقية وإعادة تعزيزها، وبين قيادة سعودية تعمل أيضا ضمن 4 أولويات: تحقيق نقلة داخلية نوعية إصلاحية واقتصادية وثقافية، إعادة الاعتبار الى الدور العربي، ترسيم الدور الإيراني بغية ان تستعيد بعض الدول العربية سيادتها واستقلالها، وإعلاء السلام في الشرق الأوسط من أجل إنهاء الحرب في هذه المنطقة من العالم التي لم تعرف الراحة والسلام بعد.

وهذا الحوار المسيحي - الإسلامي يجري على وقع تبدُّل النظرة الدولية الخاطئة التي حصرت الإرهاب في مرحلة معينة بالطائفة السنية، فيما الإرهاب عابر للطوائف ومعولَم، الأمر الذي يقطع الطريق على أنظمة إرهابية تحاول الحفاظ على وجودها من طريق ادّعاء محاربتها للإرهاب، وهذا التطور في النظرة الدولية يساهم في إعادة الثقة ومصالحة شعوب المنطقة مع المجتمعات الغربية، وخصوصاً في حال إنهاء النزاع العربي- الإسرائيلي على قواعد المبادرة العربية للسلام، وفي حال تغيير الدور الإيراني من دور ثوري إلى دور دولتي يسعى الى المساهمة في الاستقرار.

وفي كل هذا المشهد يبقى لبنان الركيزة الأساسية للمسيحية المشرقية بفِعل عوامل الديموغرافيا والجغرافيا، كذلك بفعل تجذِّر المسيحيين اللبنانيين في أرضهم وامتلاكهم المقومات الفكرية والثقافية والإيمانية والعنفوانية، وما استعادتهم لحضورهم ودورهم سوى نتيجة لأمرين أساسيين وحقيقة ثابتة:

ـ الأمر الأول، المسار الذي بدأته روما مع الإرشاد الرسولي وتوِّج بزيارة البابا والذي فعلَ فِعله باستعادة الثقة وخلع رداء الإحباط.

ـ الأمر الثاني، كون هذه الجماعة لا تعرف معنى الهزيمة ولا طعم الاستسلام، وما تكاد تَكبو حتى تقف مجدداً دفاعاً عن قيمها الإنسانية والحضارية.

أمّا الحقيقة التاريخية الثابتة فهي أنّ الجماعة المسيحية في لبنان ستبقى حتى قيام الساعة، بمعزل عمّا يمكن ان تشهده من مد وجزر، الشاهد الحَي على انطلاقة المسيحية، والنموذج الذي يجسِّد الرسالة المسيحية.