في معرض تشدده لإنجاز تشكيل حكومته، لجأ الرئيس سعد الحريري، مجدداً، إلى الضغط على القوات اللبنانية. ومرّة جديدة، استخدم منطق وضع معراب تحت الأمر الواقع، فإما أن توافق على التنازل والقبول بمبدأ تبادل الحقائب، او أنه سيقدّم تشكيلته الحكومية، وفق ما ترتئيه مصلحة ولادتها، وهي سحب وزارة الثقافة من "القوات"، ومنحها إما وزارة الإعلام أو التنمية الإدارية، بمعزل عن موافقتها.

"بيت الخالة"

إنها المرة الثانية التي يفرض الحريري فيها على القوات السير بما يريده. فبعد انهاء مشكلة تمثيل "اللقاء التشاوري"، اتصل الحريري بسمير جعجع طالباً منه مساعدته بتشكيل الحكومة، والتنازل عن الثقافة، بينما جعجع كان يرفض مبدأ التبادل، لكنه وجد نفسه أمام خيار القبول، خصوصاً أن الثقافة ليست "أدسم" من التنمية الإدارية أو الإعلام، وبالتالي ليس تغييراً عميقاً.

لم يكن لدى الحريري خيار آخر غير الاقتراب من حصة القوات، على الرغم من أنه طوال فترة التفاوض، كان يحرص على عدم إزعاجها أو إرغامها على ما لا تريد. لكن بعد انسداد الأفق، عاد الحريري إلى بيت خالته مستعيناً. خصوصاً ان القرار بتشكيل الحكومة اتُخذ، ولم يعد بالإمكان عرقلتها.

الحريري فاز بالتشكيل وبعدم التنازل لصالح "اللقاء التشاوري"، مقابل تنازل التيار الوطني الحرّ عن الأحد عشر وزيراً. واعتبر الحريري أنه حقق مكسباً أساسياً في احتفاظه بوزيره المسيحي.

الرابحون الثلاثة

تفرز التشكيلة الحكومية الجديدة ثلاث قوى فائزة، وإن بدرجات متفاوتة: حزب الله بالدرجة الأولى، الذي حقق كل ما يريده. والتيار بالدرجة الثانية، الذي احتفظ بأكبر كتلة وزارية، وبتجديد التحالف الاستراتيجي مع حزب الله والمصلحي والتكتيكي مع الحريري، واستطاع تحجيم القوات وتيار المردة. بينما الحريري، وهو في المرتبة الثالثة من الرابحين، احتفظ برئاسة الحكومة، وصمد أمام كل الضغوط التي أوحت بالانقلاب عليه، بإنجاز تشكيل حكومة تلبي طموحات ربط النزاع مع الحزب، والاتفاقات العميقة والمتجددة مع باسيل، والتي كان آخرها في لقاءات باريس، مع رجال أعمال مشتركين بينهما، وشخصيات فرنسية وتواصل مع الروس. وأبرز الدلائل على نتاج هذه اللقاءات، هي الاتفاقات بالتراضي حول منشآت تخزين النفط في طرابلس، وملف الكهرباء بدير عمار، وصولاً إلى السلفة التي تطالب بها وزارة الطاقة.

ومن شأن هذا الثلاثي أن يعمّق التفاهمات، من أجل التحكم بإدارة البلد ما بعد التشكيل، على غرار ما كان الحال في فترة المشاورات، عبر استبعاد القوات والحزب الاشتراكي، وتسجيل المزيد من النقاط في مرمى حركة أمل (ونبيه برّي)، التي حاول باسيل استهدافها أكثر من مرة، مقابل اكتفائه باستقطاب الحزب والحريري إلى جانبه، مستلهماً من الرئيس ميشال عون نظريته السابقة حول "السيبة" الثلاثية، أي حزب الله والتيار والمستقبل.

وهذا ما برر لجنبلاط، في النهاية، رفض تقديم تنازل من حسابه، خصوصاً أنه ربط ذلك بالتوافق المصلحي العميق بين الحريري وباسيل، المتجلي بالاتفاقيات الاقتصادية والمالية بينهما، العاصية على أي طرف آخر. فاعتبر جنبلاط أن الحريري يريد الأخذ من حلفائه، لإرضاء باسيل والتسوية معه.

تفاهمات دولية أيضاً

وفيما كانت المفاوضات قد انتهت، وبانتظار جواب القوات، كان باسيل يسقط أسماء وزرائه على الحقائب، ويستعد للتوجه إلى قصر بعبدا لتسليم التشكيلة إلى عون، والإعداد لإصدار المراسيم.

وهنا تبرز الملاحظة الأساسية حول السبب الذي دفع إلى ولادة الحكومة، خصوصاً أن تنازل باسيل عن الثلث المعطل كان ممكناً قبل شهر أو أكثر، للوصول إلى الصيغة ذاتها، التي تم الوصول إليها اليوم. هذا ما يؤكد ارتباط الملف بجملة تطورات خارجية، كان قد بدأ العمل على فكفكتها في باريس، من التصعيد الفرنسي إلى التواصل مع إيران والتخفيف من حدّة جدول أعمال مؤتمر وارسو، وصولاً إلى التوافق الأوروبي، وبالتحديد بين فرنسا وألمانيا، على صيغة للتعامل التجاري مع إيران، من خارج حدود العقوبات. وهذا يؤكد حدوث تقاطع روسي إيراني أوروبي على جملة أمور، من بينها الملف اللبناني.. مقابل غض نظر أميركي، بالنظر إلى تراجع حدة اللهجة الاميركية، من منع حزب الله الحصول على وزارة الصحة مثلاً، إلى التسليم بما يريده اللبنانيون، ومراقبة أداء الحزب في وزاراته. هذا الشعار ليس إلا أسلوب أميركي للحفاظ على ماء الوجه، طالما أن حزب الله بالقياس السياسي حصل على ما يقارب ثلثي الحكومة، فيما الحريري يظهر وكأنه رئيس الأقلية فيها، يرتكر على ربط النزاع مع الحزب، والتحالف مع التيار الوطني الحرّ. 

بلا شك ستكون الحكومة أمام استحقاقات أساسية وضاغطة، لا ترتبط بملف الوضع الاقتصادي ومؤتمر سيدر فقط، بل الأساس فيها سياسي، وبالأخص ملف العلاقة مع سوريا، والتعاطي مع العقوبات، وترسيم الحدود. وهذه كلّها ستمثل تحدياً أمام حكومة الحريري، التي ستكون الرؤية الاستراتيجية الجديدة فيها ممسوكة من قبل حزب الله. وأهمها كيفية تطبيع العلاقة مع النظام السوري، مقابل فوز الحريري وباسيل بالتفاصيل الداخلية.